بقلم: عباس الحاج أحمد
ألهمت السماء حواس الكائن البشري منذ نشأته. فشرع في صياغة الأساطير والآلهة. انغمس، في سجن خوفه من المجهول قبل استنباط قوانين الطبيعة. عبدَ الشمس والقمر والنهر والحجر، قبل أن يستقر على عبادة الإله الواحد.
ولكن، تاريخ البشر المحفور بآثارهم، يثبت لنا أن اكتشاف أسرار السماء ليس حديث العهد. فلطالما نظر الإنسان إلى الأعلى لمعرفة الاتجاهات والاستدلال على الأماكن. ثم جاء اختراع التلسكوب ليخرجنا من صندوق كوكبنا الصغير إلى الكون اللامتناهي والمليء بالغموض. خاض العلماء حرباً ضروساً مع محاربي العلم باسم الوهم المقدس. ولكن، كلمة العلم والعقل سارت مع تفاحة نيوتن ونسبية أينشتاين وقشرة جوز ستيفن هوكينغ. لتثبت لنا، أن كوننا وأرضنا يخضعان لسنن الوجود. سُنن، تكشف عن ألغازها لمن يعمل ويجتهد ويجاري الماء والهواء ويرصد بعين الباحث عن الحقيقة اللامتناهية.
بين نيوتن ولابلاس
في القرن السابع عشر، نشر إسحاق نيوتن أبحاثه حول الجاذبية. الحركة المحيطة بنا، حرّكت ميكانيكية دماغه. فجذب الأشياء لبعضها البعض، فعرّف نيوتن الجاذبية بالقوة التي يفرضها جسم على آخر. فكك بهذا التعريف لغزاً وفتح به ألغازاً كثيرة.
في القرن الثامن عشر، ألقى عالم الفلك والجيولوجيا جون ميتشلد محاضرة في جمعية لندن الملكية أعلن فيها عن نظريته القائلة بأن أشعة الشمس والنجوم الأخرى تصل إلى الأرض لأن الضوء لا يتأثر بجاذبية الأرض. وبالإستعانة بقوانين نيوتن، استنتج بأنه أحيانا تتضخم كتلة النجمة لتصل إلى حد يمنع أشعتها من النفاذ، فتبدو سوداء. وسمى هذه الظاهرة: «النجوم السوداء». بعد ذلك بوقت قصير، توصل عالم الرياضيات الفرنسي لابلاس إلى نظرية النجوم السوداء التي تمتلك جاذبية هائلة لدرجة أن الضوء لا يستطيع النفاذ منها! وقد شرح أفكاره بالحسابات الرياضية. لم يطرح نظرية الثقب الأسود، ولكن نظريته، مهدت لها.
زمكان أينشتاين
مع بداية القرن العشرين، وقعت الهزة العلمية التاريخية، مع إعلان أينشتاين لنظريته النسبية (الخاصة والعامة)، التي حلت مكان قوانين نيوتن للجاذبية في علم الفيزياء. توصل العالم الألماني إلى الحقيقة الأجمل: «الزمان والمكان لا يفترقان». جمع أينشتاين الزمان والمكان بمفهوم «الزمكان». مفهوم شق طريقاً وسط التراكم العلمي لحل أحجية الثقب الأسود. كل شيء يتحرك بطريقة مستقيمة قدر الإمكان ولكن على طرق منحنية لأن الزمكان مُنحنٍ. فوُلد مفهوم جديد للجاذبية.
إذا نظرنا إلى الكون على أنه بساط مطاطي ثم وضعنا كرة فوق هذا البساط سينحني نحو الأسفل. كلما زادت كتلة الكرة زاد الانحناء. في حالة الثقوب السوداء قد تفترض أن الكتلة صغيرة جداً أو أن انحناء البساط كبير جداً. وهذا غير صحيح بتاتاً، إذا طبّقنا نظرية الثقب الأسود على هذا النموذج، ستصبح الحالة كدبوس صغير غُرس في هذا البساط. لأن الثقب الأسود يكون بحجم نقطة، أو يصل إلى حالة التفرد كما يسميها الفيزيائيون. حالة التفرد ليست لها أبعاد في أي من الإتجاهات. كل الكتلة تتمركز في هذه النقطة. وقوة الثقب الأسود تكمن في أنه يجذب الضوء. وبالتالي فإن مرور ضوء بالقرب من ثقب أسود يجعله ينحني ويتقوّس.
العيش في الماضي
إنّ فهمنا ورصدنا لهذا الكون مرتبط بقوة ساحرة اسمها الضوء. فهو المنقذ لجهلنا، المنير لظلماتنا، وفاتح عهد استكشافاتنا. هو الحقيقة والوهم. هو المصداقية والخداع. هو الليل والنهار. عندما ترى نجمة، فأنت ترى ضوءها الواصل إليك. والذي لربما أنطلق منها من ملايين السنين. أنت هنا تنظر إلى الماضي. أنت تعيش في الماضي المتصل بالحاضر بحسب سرعة انتقال الضوء. مثلاً، عندما تنظر إلى الشمس ترى حالتها التي كانت منذ ثمان دقائق ونيف وهي المدة التي يستغرقها الضوء وصول إليك.
الضوء كبصمة كونية
الضوء هو البصمة الكونية التي نحدد بها حالة الأجسام الضخمة أو الصغيرة المحيطة بنا. هو أشبه بالإكسير الذي يمد بالحياة حواسنا اللاهثة خلف غرائزها ومداركها. بسبب غيابه قُتل الآلاف. وبحضوره عُبدت الشمس والقمر. ومع أحداث الخسوف والكسوف، ذُبحت الأضاحي على محاريب معابد القبائل القديمة لظنها بأن الإله غاضب وبحاجة للدم. لم تكن تعلم، بأن الضوء غائب وبحاجة فقط، لدقائق فلكية تُعيد تموضع الأجرام كما تعودت عليها عينُ البشري المجردة.
أعطني الناي وغن
بإسم الضوء، سُمي عصر النهضة الأوروبية بعصر التنوير. وبسببه، عُين أديسون ملكاً على الكرة الأرضية. ورُفع تسلا سلطاناً إلى الأبدية. فقد أنارت الكهرباء أدوات رصد العلماء. وتسارع تطور التكنولوجيا بما لم يتوقعه كُتاب الخيال العلمي من جول فيرن إلى إسحاق عظيموف. اختلطت أسئلة القلق الوجودي مع الفن والأدب والعلم، ليقدم جبران خليل جبران أجوبته، بخلطة ما بين الحواس وأثير الضوء والتأمل من خلال التوحد مع الطبيعة. قدم أجوبته إلينا بإسم النور قائلاً:
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود
هل تَخَذت الغاب مثلي .. منزلاً دون القصور
فتتبّعت السواقي .. وتسلّقت الصخور
هل تحمّمت بعطر .. وتنشّفت بنور
وشربت الفجر خمراً .. في كؤوس من أثير
Leave a Reply