حين ينغمس المرء في الحياة الاجتماعية، يصادف شتى النماذج من الناس دون اكتراث، لكن هناك من النماذج من يستدعون التوقف عندهم لما تتميز حياتهم بمفارقة تجذب الانتباه وتؤثر في الوجدان، فقد التقيت في جاليتنا الكريمة بسيدة روت لي قصة حياتها بحيث جعلتني أمسك الورقة والقلم لتدوين بعض الملاحظات، سيما وأن بطلة القصة قد حدثتني بمنتهى الصراحة التي لا تخلو من الظرافة.
من ينظر إليها سرعان ما يتبادر إلى ذهنه بأنها من أسعد نساء العالم! يساعدها في ذلك انفرادها بطلّة جذابة وقورة، ووجه بشوش لا تفارقه البسمة، وروح عذبة تتجلى من نقاء قلبها المفعم بالمحبة لكل البشر.
إليك – عزيزي القارئ – أسرد قصتها على لسانها دون زيادة أو نقصان:
كنت مازلت في مقتبل العمر فتزوجت من رجل لم تربطني به علاقة حب سبقت زواجنا، ظننت أنه الشاب الذي أطمح في أن أحيا معه حياة سعيدة وبناء أسرة يلفها الحنان ويشيع بينها الوفاق. عشنا حياة لا بأس بها في بادئ الأمر، حيث عملنا سوية وتعاونا على متطلبات الحياة حتى أصبحنا عائلة بأربعة أبناء، وعشنا معاً لعقدين من الزمن بكلّ أيامها ولياليها وافتراعات مباهجها، فكنا مثال العائلة السعيدة حسبما كان يتهيأ لي أو أعتقد.
أحببت هذا الرجل وأخلصت له، بل وصل بي الأمر إلى أن أخدع نفسي بأني محظوظة بذلك الحب، فكم من أزواج عبروا الحياة دون أن يعرفوا عظمة الحب وروعته التي تجعل من كل منهما يذوب في الآخر، وملاذاً للروح ومرآة يتمرى الواحد بالآخر عبرها، وكنت أشعر بأنني عقدت صفقة مع القدر حيث اخترت حبيباً مميزاً رغم أني لم أسمع منه يوماً كلمة حب تثلج صدري أو كلمة شكر على أي مجهود أبذله في إسعاد العائلة، فقد كان من النمط التقليدي الذي يهدف إلى بناء عائلة حجرية العواطف.
ولكوني إنسانة منتجة وأتحمل متطلبات الحياة فقد بدأ يتغير شيئاً فشيئاً، يختلق المشاكل دون سبب ليتخذ من ذلك ذريعة لخروجه من البيت، ثم سلبني حقي الطبيعي في الحياة الزوجية، ابتعد عني وأصبح يصرخ بي ويكلمني بألفاظ نابية لم أعهدها منه من قبل، وهو يحاول تنفيري منه كي يظهر بمظهر الضحية، حتى جاء يوم عرفت فيه بأنه على علاقة بامرأة أخرى تزوجها سراً وأنجب منها، ورغم أنني اتخذت جانب الصمت ولم أفاتحه بثقل فعلته، إلا أني شعرت بالحزن يتراكم في أعماقي وكأن قرحة تتآكلني في أحشائي، كنت أشعر بطعنة في صميم قلبي إذ تخيلت أولادي وهم يعيشون الحياة من دون أب يحنو عليهم ويتابع شؤونهم.
لقد فضّل عليّ واحدة من بنات الشوارع تدّعي الإسلام، فتفرغ لها واحتضنها هي وأولادها ونسي عِشرة السنين بيننا وقد أعماه الغي عن النظر إلى الفارق الاجتماعي والمستوى العائلي والأخلاقي بيني وبينها فهل يتأكد من ذلك “أنّ الطيور على أشكالها تقع”؟
فكرت ملياً بالطلاق وترويت، ذلك لأن الطلاق يهدم الأسرة، فيما يتكفل المجتمع بتنميط المطلقة على أنها صاحبة “سابقة” فتتحمل وحدها الأسباب والتبعات، بما فيها اللوم والتجريح من أقرب المقربين.
واجهت نفسي واسترجعت شريط حياتي المليء بالمآسي خاصة من جانب خيانة زوجي بعد أن رأيت الحزن يرتسم على وجوه أبنائي الذين لم يحظوا بلفتة حب من أبيهم ولا بضمة حنان منه تفرحهم وتبعث الثقة في نفوسهم أو كلمة تشجيع أو اهتمام تجعلهم يشعرون معها بالسعادة، وعند هذا المنعطف قررت وضع حد لهذه المآسي التي نعانيها، وأعلن عن رفضي لإهانته وبخله المنفّر.
وقع الطلاق بيني وبينه، وأنا أعرف أن مراده قد تحقق بالتفرغ لعشيقته الوضيعة، فشعرت بأن هماً قد انزاح عن صدري وصدور أبنائي كما انقشعت غمامة من عيني وعيونهم، ولم يعد الماضي يثقل على روحي أو أن أحيك منها عباءة أدثر بها حبيباً خائناً.
كنت أملك طوفاناً من المشاعر الجياشة التي تحتاج متنفساً وكنت آمل أن أجد المتنفس من خلال هذا الرجل، أما الآن وبعد أن تحررت من عبوديته صار بإمكاني أن أحدق في وجه الحقيقة دون أن يرف لي جفن، وقد كبر أبنائي وأدركوا تضحياتي من أجلهم، كما قدروا ما عانيته في سبيلهم، فقد ضحيت بزهرة شبابي وحرمت نفسي من مباهج الحياة، في الوقت الذي تمتع أبوهم بكل شيء وعاش حياته على هواه متناسياً أن من يغدر سيُغدر به ذات يوم، فتركته العشيقة وأولادها، لأنه لم يكن سوى جيب بالنسبة لها، فكم حاول بعد ذلك، الاتصال بأبنائي متقفياً طرق المراوغة، لكنهم بعد أن اكتشفوا زيفه لم يكترثوا به ولم يعطوه ما حرمهم منه وهو الحنان والرعاية. خسر كل شيء ونسي أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
Leave a Reply