فجأة، ومن دون مقدّمات، تراجع منسوب الخطر من انفجار إقليمي عابر للحدود من كردستان إلى لبنان. العملية العسكرية التي قامت بها القوات العراقية للسيطرة على كركوك، والتي انجزت مهمتها في فترة زمنية قياسية، لم تتجاوز الأربع والعشرين ساعة، أدّت في واقع الأمر إلى نزع فتيل لغم إقليمي كبير، كاد يقود الشرق الأوسط إلى «خريف أسود».
وأمّا زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى تل أبيب، فقللت، بشكل مثير للانتباه، مستوى التسريبات الإسرائيلية بشأن «حرب محتملة» ضد «حزب الله».
هكذا عادت قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط، بين ليلة وضحاها إلى النقطة التي كانت عليها قبل المغامرة البرزانية في شمال العراق، وقبل التصعيد الأميركي الأخير بشأن الاتفاق النووي مع إيران، ما يجعل تفاهمات هامبورغ التي توصّل إليها الرئيسان الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، هي الضابطة للتوازنات القائمة، بمفاعليها كافة، الممتدة تأثيراتها على الصراع السوري وما يحيط به، من ملفات حساسة.
وبرغم التصعيد الواضح من الجانب الأميركي-الإسرائيلي، والذي تبدّى في نقاط ثلاثة ساخنة -إيران، حزب الله، كردستان- فإنّ ثمة قناعة تترسخ يومياً بأن التهديدات الكلامية شيء والقدرة الفعلية على تنفيذها شيء آخر.
بروباغندا ترامبية
على هذا الأساس، فإنّ كثراً في الولايات المتحدة وخارجها لم يتعامل بالقدر الكافي من الجدّية مع الموقف الأخير لدونالد ترامب بشأن الاتفاق النووي الإيراني، حتى أن الدوائر الدبلوماسية كافة، تعاملت مع خطوته الأخيرة بشأن سحب ثقته من اتفاق فيينا، دون الانسحاب منها عملياً، بوصفها مجرّد «بروباغندا» لا تقدّم أو تؤخر في الأمر الواقع الذي كرّسه الاتفاق النووي، لا بل إن رئيس دبلوماسيته ريكس تيلرسون أكد صراحة أن الاتفاق النووي الإيراني يخدم مصالح الأمن القومي الأميركي.
على هذا الأساس، لا يملك ترامب من أدوات لحفظ ماء وجهه أمام الجمهوريين واللوبي الصهيوني سوى اللجوء إلى سلاح بات مألوفاً في السياسة الأميركية، وهو العقوبات الاقتصادية التي باتت الكثير من الشكوك تحوم حول نجاعتها، في ظل التحوّلات التي باتت تتسم بها العلاقات الاقتصادية الدولية، والتي تجعل دولة إقليمية كبرى مثل إيران قادرة على تحمّل هذا الشكل من العقوبات الدولية لأكثر من ربع قرن، أو حتى جزيرة صغيرة مثل كوبا لأكثر من نصف قرن!
وما ينطبق على إيران، ينسحب بدوره على «حزب الله»، فالتهديد بالعقوبات الجديدة من قبل الكونغرس لا يبدو أكثر من فقاعة إعلامية، أو في أفضل الأحوال أداة ضغط سياسية على نحو يدرك القاصي والداني بأنه لا يشكل تهديداً وجودياً لكيان الحزب المقاوم، أو قدرته على ممارسة نشاطه العسكري والسياسي.
ولعلّ إسرائيل تدرك جيداً هذا الأمر، وهو ما يفسر لجوءَها مؤخراً إلى لغة التهديد بشن عمل عسكري ضد «حزب الله» -حدث ذلك من خلال تسريبات إعلامية وليس بشكل رسمي لعدم امتلاك قادتها العسكريين والسياسيين الجرأة الكافية لإطلاق تهديدات كهذه- في خطاب تصعيدي بدا طابعه ابتزازياً أكثر منه جدّياً.
والواقع أن إسرائيل صدمت من التجاهل الأميركي لتحريضها المستمر على «حزب الله» وإيران، خصوصاً أن تفكير دونالد ترامب بات منصباً على ملفات أكثر خطورة، من الصراعات داخل المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة إلى الصداع الكوري الشمالي، وبالتالي قد لا يكون مستعداً أو قادراً على الدخول في فتح جبهات جديدة، حتى وإن كانت تحقق الفائدة للحليف الإسرائيلي التاريخي.
صدمة نتنياهو
وأما الصدمة الكبرى، فكانت في سوتشي، حين «صب فلاديمير بوتين دلواً من الماء المثلج على رأس نتنياهو» -والتعبير هنا للصحافة الروسية بعد اللقاء- حين حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي انتزاع تعهدات من الرئيس الروسي بردع التحرّكات الإيرانية في سوريا، فكان الجواب أن الجمهورية الاسلامية -ومعها «حزب الله»- قد باتت شريكة لروسيا في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وأبعد من ذلك.
انطلاقاً من ذلك، كان مفهوماً أن تلجأ إسرائيل إلى التصعيد أكثر فأكثر، وهو ما جعل القيادة الروسية تتعامل مع الموقف عبر سيناريوهين محتملين: إمّا أن إسرائيل باتت في موقف يجبرها على اتخاذ خيار صعب بشن عدوان على «حزب الله» -حتى وإن كان الأمر مقامرة انتحارية في ظل تنامي قدرات المقاومة في لبنان- وإما أن التهديدات مجرّد تصعيد سياسي لتحقيق مكاسب سياسية.
ويبدو واضحاً أن الجانب الروسي تعامل مع الاحتمالين على قدر المساواة وراح يضع السياسات المناسبة للتعامل معها، وهو ما يمكن قراءته في التحليلات السياسية والعسكرية المبعثرة في الصحافة الروسية أو مراكز الدراسات الغربية.
وفي الحالة الأولى، كان يمكن لروسيا أن تتعامل مع خيار الحرب على النحو الذي لا يبدد الانجازات التي تحققت في الشرق الأوسط منذ بدء العملية العسكرية في سوريا قبل عامين، وعلى هذا الأساس، فإنّ الخيارات المتاحة أمام موسكو كانت تتمثل في ترك التصعيد يأخذ مجراه إلى أن تقع الحرب المحتملة، فتتحرك الدبلوماسية الروسية لانهائها، بشروط معينة، تكرّس نفوذاً أوسع لروسيا في الشرق الأوسط في ظل تراجع الدور الأميركي.
وفي الحالة الثانية، فإنّ التدخل الروسي لمنع اندلاع الحرب عبر الاتصالات الدبلوماسية، التي تؤدي إلى بعض التسويات الميدانية، قد يكون خياراً أقل كلفة ويحقق في الوقت ذاته الهدف الاستراتيجي المحدد بالنسبة إلى النفوذ الروسي. وعلى هذا الأساس، كانت زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى إسرائيل مناسبة لتمرير الكثير من الرسائل أبرزها الرسالة الجوية التي بعثت من أجواء لبنان، حين تعرّضت مقاتلة حربية إسرائيلية لاستهداف مباشر من قبل الدفاعات الجوية السورية، والذي لم تجرؤ إسرائيل على الرد عليه قبل الحصول على موافقة روسية.
بذلك، يمكن القول إن التصعيد الإسرائيلي مرشح للتراجع في ظل بعض التطمينات التي يمكن أن تكون تل أبيب قد حصلت عليها بعد زيارة شويغو، لجهة إبعاد «التهديد» المتمثل في الحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» عن نقاط الاشتباك في الجنوب السوري، ما يعني بطبيعة الحال العودة إلى تفاهمات هامبورغ.
حصان طروادة
الملفت أن هذه التحرّكات واكبها التطوّر المثير للانتباه في ملف استفتاء إقليم كردستان، والذي أرادته إسرائيل حصان طروادة لتفجير الشرق الأوسط. هذا الملف، يبدو أن أخطر مفاصله طويت في العملية العسكرية المباغتة التي استرد من خلالها الجيش العراقي -بدعم إقليمي وغطاء روسي وحياد أميركي- لكافة المواقع التي سيطرت عليها قوات البشمركة في محافظة كركوك، ما يعني من الناحية الفعلية سحب أكبر صاعق تفجير في ملف العلاقات بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق، على نحو يجعل موقف مسعود البرزاني أكثر صعوبة حتى في الوسط الكردي، وبشكل أكثر أهمية، يجعل مغامرته العابرة لحدود كردستان، والتي صبّت إسرائيل رهانها عليها، مجرّد «حلم ليلة خريف»!
Leave a Reply