عباس الحاج أحمد
بين رهين المحبسين .. وسجين الأجراس
يقف الأحدب كوازيمودو محاوراً إزميرالدا بالقرب من الأجراس بعدما سجنه القس فرولو وحرمه من رؤية البشر، يستعيد ملامسة الجمال بوجه الغجرية الصديقة. ينتقم لظلمه باستخدام المطبعة النادرة في ذلك العصر. قارع أجراس، قس، وراقصة غجرية، ثلاث شخصيات أساسية في رواية «أحدب نوتردام» التي كتبها فيكتور هوغو عام 1831، وعادت إلى الأذهان الأسبوع الماضي بعد حريق الكاتدرائية الباريسية التاريخية، الذي ألهب النقاشات العالمية عامة والعربية خاصة تحت عنوان: «الحجر والبشر».
من تدمر إلى باريس
تحمل إلينا المعالم التاريخية أسراراً خاصة. تلهم الفنان، تُطمئن المؤمن وتمد السائح بلذة خاصة. لطالما حُرّف التاريخ على الورق قبل أن تصوّب بوصلته بأدلة قاطعة ببرهان الحجر. فهو حامل الأمانة بكل أبعادها. الشاهد على الذبائح والضرائح وأحداث التاريخ والتضحيات. يخبرك عن زمن ملطخ بالدم أو زمن غني بالحب والإنسانية. يجب أن يبقى الحجر لنتعلم منه.
ما بين نوتردام الغرب وتدمر الشرق خسرنا الكثير من جماليات إنتاج التاريخ البشري وحضاراته. دُمرت تدمر على يد «داعش» «إسلامي»، فيما وقف فيكتور هوغو مع أحدب نوتردام بوجه «داعش» المسيحي. ومابين الحدثين مجرد فارق زمني ومكاني، لا شيء آخر. لا فرق هنا بشعور قومي أو انتماء جغرافي. الظالم واحد، المظلوم واحد والصراع واحد ما بين التنوير والظلام، وللقضية عنوان واحد: «الإنسان».
الاهتمام العالمي بحريق نوتردام
تساءل كثيرون عن أسباب الاهتمام الكبير بالكاتدرائية. فيما علّق بعض رواد التواصل الإجتماعي بشماتة على الغرب الكافر بإسم دينهم الحنيف. في المقابل تعاطف العالم مع الحدث بإسم الفن والتاريخ والسياسة والدين وبالتأكيد السينما والأدب، خاصة وأن رواية «أحدب نوتردام» تحولت لأعمال سينمائية وكرتونية ومسرحية هامة. أبرز الأفلام كانت أولا عام 1956 بإخراج الفرنسي جون ديلانوي وبطولة أنطوني كوين بدور الأحدب. وثانياً عام 1997 بإخراج المجري بيتر ميداك وبطولة سلمى حايك بدور إزميرالدا.
كما أنتجته «ديزني» عملاً كرتونياً عام 1996، بالإضافة للعديد من الإنتاجات الأخرى المقتبسة عن الرواية التي تدور أحداثها بين زوايا الكاتدرائية الشاهدة على تاريخ أوروبا.
يُذكر، أن كتابات هوغو أنقذت الكاتدرائية من الانهيار في القرن التاسع عشر بعدما أضاء عليها بقوة كلماته. وهي التي استقبلت حفل تتويج الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت بحضرة البابا بيوس السابع عام 1804، وزواج ملك اسكتلندا عام 1537، وتتويج الملك البريطاني هنري السادس ملكاً على فرنسا عام 1431 وأحداثاً أخرى صنعت تاريخ أوروبا… والعالم.
أبو العلاء المعري وكوازيمودو
عام 2013 قام مسلحو داعش بقطع رأس تمثال للشاعر والفيلسوف ابو العلاء المعري في مسقط رأسه بمدينة معرة النعمان في محافظة ادلب السورية. أبو العلاء، هو احمد بن عبد الله بن سليمان، ولد في معرة النعمان في العام 973، وفقد بصره في سن مبكرة بعد اصابته بالجدري، لكن ذلك لم يحل دون تعلمه وبروز فكره. عرف عنه زهده، تقشفه وكونه نباتيا.
لُقب برهين المحبسين، بسبب فقدانه البصر وابتعاده عن الناس فترات طويلة. وهو القائل:
ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناس فاشيا
تجـاهلتُ حتى قيـل إني جـاهـلُ
فَوا عجبا كم يدّعي الفضلَ ناقـصُ
ووا أسفا كم يُظهر النقصَ فاضلُ
من قطع رأس أبو العلاء في بلاد الشام، ننتقل إلى سجن الأحدب كوازيمودو (تعني بالفرنسية نصف مكتمل) في رواية هوغو. من «رهين المحبسين» إلى «سجين الأجراس».
للأحدب دور أساسي داخل الصرح المسيحي وهو دق أجراس الله المقدسة. هو محروم من التمتع بجماليات الحياة، بأوامر من القس وبقضاء من القدر. حاله كحال أبو العلاء. وهنا، تناغم خيال فيكتور هوغو بأحدبه مع وقائع معرة النعمان، لا بل مع صراعات التاريخ البشري بأكمله. فتمرد الأحدب على ظلم الكنيسة بالطباعة والورق وبالرقص الغجري. كما ثار أبو العلاء على جهل الظلاميين بكلماته ومواقفه. وهنا تقف منحوتة أبو العلاء في سوريا مع منحوتات الشياطين والملائكة في نوتردام لتوحد صورة التضامن العالمية. صورة تحفظ الحجر الشاهد على إنتاجات البشر في سياق تاريخٍ يُحرَّف بالقلم وبألاعيب الرواة وناقلي الأحاديث.
أحدب مدينتنا
حريق الكاتدرائية الأسبوع الماضي أعاد إلى الأذهان، النهاية الحزينة برواية هوغو بقتل إزميرالدا بعدما تسبب القس بشنقها لأنها لم تحبه! وهنا حاول الأحدب إنقاذها والتضحية بنفسه إلا إنه فشل في إنقاذ رفيقة عزلته ومضمدة جراحه النفسية.
الخلاصة هنا، بعد الحريق الأخير والجدل الواسع حوله في عالمنا العربي. تتمثل بحاجتنا إلى إزميرالدا تلهمنا للتمرد على صناع جهلنا وسجوننا. وأستذكر هنا مقطوعة «أحدب نوتردام وأحدب مدينتنا» للكاتبة ايريني سمير حكيمي والتي تقول فيها:
«كوازيمودو المنبوذ هل أدركت أخيراً ما لحق بجميلتك؟ هل أدركت من تلاعب بحريتك؟ من طمس جمال عقليتك؟ من أشبعك قبحاً وذلاً في خدمته.. وكيف استخدم طاعتك لشهوته؟ لقد قتل عقلك كوازيمودو ومن ثم قتل حبيبتك… لقد سخرك في عبودية ليثبت بها حريته، أغلق على روحك بصلاة من أجلك ولم يشاركك. أوقف حياة ازميرالدا التي أشعلت فيك حب الحياة وأنقذتك.. كفاك عبودية وطاعة عمياء.. كف عن أن تكون قبيح أفعالٍ يا كوازيمودو… وأخيراً أحدب نوتردام طارده الزمان، عرف كيف تكون الطاعة الصماء كقيادة أعمى لعميان إنما أحدب مدينتنا لازال يغوص في كتاب نوتردام ولا يتعلم. مازال يدق أجراساً لا ينفعه دويُّها ويداه تتألم. أنقذته إزميرالدا ولا يزال أسير مخاوفه لا يزال منحنياً يخدم سيده.. أيها الأحدب القبيح انزع قبح صمتك واخرج لترى النور… ما من رعب في الحرية… ما زال بإمكانك أن تتخطى السور لازالت أمامك فرصة أن تحرر غجريتك وتنطلق كالنسور».
Leave a Reply