عن رفوف فارغة في متحف الهولوكوست .. وعقول فارغة في أمتنا العربية
بقلم: عباس الحاج أحمد
إنه رجل حالم. يتنقل بين المسرح والأدب والجغرافيا والسياسة. ينام على حلم واحد ويستيقظ عليه. يرصد التغيرات القريبة منه ويتبع أحداثها البعيدة. لا يؤمن بالطقوس ولا بالخرافات. يمتلك رؤية عملية بحس مرهف واندفاع شخصي خاص بحب العظمة وتقمص دور «المخلص». ليس فناناً ولا بالمبادئ الانسانية ولا زعيماً سياسياً. إنه صحافي، يُدعى تيودور هرتزل. ملهم بن غوريون وغولدا مائير ونتنياهو. هو الحجر الأساس للحركة الصهيونية العالمية. وأحد المحركين الأساسيين للتاريخ الحديث من خلف الكواليس.
انتقال عبر الزمن
إليكم الحديث التالي: «أنظر إلى الشركات الرائدة في العالم عام 2006، خمس شركات طاقة، وشركة تكنولوجيا واحدة هي «مايكروسوفت». وبعد عشر سنوات فقط. عام 2016، غمضة عين بحسابات التاريخ، انعكست الآية تماماً. خمس شركات تكنولوجيا، وشركة طاقة واحدة! الثورة الحقيقية هي في الابتكار. هذه الشركات هي غوغل وآبل وأمازون وفيسبوك. ولديها جميعاً مراكز أبحاث في إسرائيل.. وهي ليست وحدها بل هناك المئات من الشركات الأخرى. هناك سبب لهذا، هناك شيء ما يحدث. إنه تغيير كبير. إنها جملة واحدة. هذه جملة فظيعة، لكن ليست لدي طريقة أخرى لأقولها. إنه التقاء البيانات الكبيرة (Big Data) بالاتصالات والذكاء الاصطناعي. حسناً، لا يمكنك الحصول على ذلك بسهولة؟ أنت تعرف ماذا تفعل؟ إسرائيل تُحدث ثورة في الصناعات القديمة وتخلق صناعات جديدة بالكامل». الكلمات هنا، ليست لمهندس تكنولوجيا أو باحث اقتصادي أو عالم فيزياء، إنها كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه أمام مؤتمر لجنة العلاقات العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) في شهر آذار (مارس) الماضي.
يكمل رئيس الوزراء متحدثاً بمنطق البحث العلمي فيقول: «إذن هنا صناعة قديمة كانت إسرائيل دائماً رائعة فيها: الزراعة.. كنا دوما جيدون بالزراعة. لكن الآن لدينا الزراعة الدقيقة. أتعلم ما هي؟ ترى أن الطائرة بدون طيار في السماء؟ إنها متصلة بقاعدة بيانات كبرى. وهناك أجهزة استشعار في هذا المجال. في الحقول هناك ري بالتنقيط والتسميد بالتنقيط».
يتابع تلميذ هرتزل محاضرته بكل ثقة وفخر وتخطيط، جامعاً الهندسة الزراعية بتقنية تعليم الآلة Machine Learning، فيقول: «إن التحكم بهذه التقنية، في المياه التي نمنحها، والسماد الذي نعطيه لكل شجرة.. هذه الزراعة الدقيقة.. هذه هي إسرائيل.. أمر لا يصدق. نقوم بإعادة تدوير ما يقرب من 90 بالمئة من مياه الصرف الصحي. الدولة التالية بأقل من 20 بالمئة، هي إسبانيا».
ويكمل مستعيناً ببيانات وإحصاءات وصور: «يمكنك أن ترى ما تفعله إسرائيل للبيئة. لذا عندما تأخذ هذين الأمرين، الزراعة والمياه، والتكنولوجيات الأخرى التي نطبقها في كليهما. يمكننا تغيير العالم. لقد سمعت للتو عن امرأة في أفريقيا. عليها أن تمشي ثماني ساعات يومياً لتوفير المياه لأطفالها. أربع ساعات في الطريق إلى بئر وأربع ساعات في طريق العودة. وجلبت شركة إسرائيلية حديثة هذه التكنولوجيا التي تتحسن من النبي موسى. تتذكرون النبي موسى؟ أخرج الماء من صخرة. يجلبون الماء من الهواء الرقيق. إنهم يجلبون المياه إلى أفريقيا، إلى ملايين الناس في أفريقيا. إنها التكنولوجيا الإسرائيلية. وكنت في الآونة الأخيرة في الهند. صديقي، رئيس الوزراء نارندرا مودي، صديق عظيم. أنا أريه الطماطم. تلك في جوجارات، الهند. هذه هي التكنولوجيا الإسرائيلية. وما سمعته كان رائعاً. توجد مزرعة تجريبية هناك ومكان توفر فيه إسرائيل، المعرفة التقنية للمزارعين الهنود. وهناك مزارع يقول: بسبب التكنولوجيات الإسرائيلية قمت بزيادة إنتاجي من المحاصيل ودخلي أصبح خمس مرات. إسرائيل تغير العالم في الهند وفي آسيا وفي أفريقيا وفي أميركا اللاتينية وفي كل مكان.
ويُكمل نتنياهو بشعور يعيده إلى إحساس عظمة أحلام هرتزل الخاصة–العامة: «هذه هي الصناعات القديمة. الآن، هناك صناعات جديدة. إسرائيل بالمعنى الحرفي للكلمة… هي التي تقود العالم.. هي رائدة عالمية في السيارات، الأمن السيبراني.. سكان إسرائيل يبلغون تقريباً 9 ملايين. نحن 1 بالمئة من سكان العالم. ونحصل على 20 بالمئة من الاستثمارات العالمية الخاصة بمجالات الإنترنت. نحن 200 مرة فوق وزننا. وهذا قوي جداً».
من على طاولة هرتزل المليئة بالخطط والخرائط والمخطوطات المكسوة بعباءة دينية لغايات سياسية، استطاعت الرؤية أن تنجح بعدما اكتسبت الدعم العالمي وانغمست في العمل العلمي. هذا العمل، أخلاقياً كان أو لم يكن، إنسانياً كان أو لم يكن، فقد حقق –للأسف– نجاحا باهراً. والأسف هنا، من منطلق إنساني بحت.
محاضرة نتنياهو لم تكن جلسة شعر أو دعاء، بل وسيلة إقناع قائمة على معطيات وأدلة، وبأسلوب يسبق أساليب زعمائنا العرب بسنين ضوئية. السياسة عندنا لا تتفق مع العلم. تتحد مع المصالح الخاصة، مع الخزعبلات. السياسة عندنا لا تفهم لغة الذكاء الاصطناعي أو التخطيط الاستراتيجي أو كيفية تحويل قوة المعجزات إلى حقائق عملية. بل السياسة عندنا تنسجم مع تجار الدين، بتكتيك التنويم والتجهيل، لنحيا ببلحة السيسي أو بمنشار محمد بن سلمان أو على أطلال خيمة القذافي، بينما جيراننا يتحركون بعصا موسى العلمية!
متحف الهولوكست
بزيارة إلى مركز الهولوكوست في فارمينغتون هيلز Holocaust Memorial Center. تأسرك مكتبة فارغة بحجم الأسئلة التي تطرحها في عقلك. مركز يعيد إنتاج ذكريات المحرقة.
بداخله مكتبة ضخمة، بلا كتب. إنها فكرة أخرى تصنع النجاح. تلك المكتبة مخصصة لضحايا المحرقة الذين لو بقوا على قيد الحياة، لأنتجوا علماً وفكراً ملأ فراغها!
على مسافة قريبة، في مدينة ديربورن، نجاحات عربية فردية تتحقق، ولكن الانهزام الجماعي مستمر. يكفينا أن مناسباتنا الأكثر إقبالاً هي تلك المذهبية… نغذي أعمالنا بالطقوس ونفتح أبوابنا لمن استهزأ بالفكر العلمي، وأين؟ في دولة العلوم الأولى في العالم، في الولايات المتحدة.
الدولة التي في الطريق
«لو كنت زعيماً عربياً لن أوقع اتفاقاً مع إسرائيل أبداً. إنه أمر طبيعي: لقد أخذنا بلدهم. صحيح أن الله وعدنا به ولكن في ماذا يمكن أن يهمهم ذلك؟ ربنا ليس ربهم. كانت هناك معاداة للسامية، والنازيون، وهتلر، وأوشفيتز، ولكن في ماذا يمكن أن يعنيهم ذلك؟ هم لا يرون إلا شيئاً واحداً فقط: هو أننا جئنا وأخذنا بلدهم. فلماذا يقبلون بهذا الأمر؟ لا معنى لإسرائيل من غير القدس، ولا معني للقدس من غير الهيكل». الآن، نستمع لكلمات رجل الهجرة الثانية. رئيس حركة «الدولة التي في الطريق». القائد والمحفز المستميت لإقامة دولة إسرائيل. من أعلن عن قيامها وأدارها لمدة عقد ونصف حتى عام 1963. إنه ديفيد بن غوريون. الصحافي الثاني المتأثر بالصحافي الأول هرتزل.
من مؤتمر تيودور الذي أسس به الحركة الصهيونية. إلى مؤتمر دايفيد الذي أعلن به عن الدولة. مسيرة تراكمية، يجب أن تُدرس في كتب تاريخنا المتوقفة عند صراعات شبه الجزيرة العربية في قرنها السابع.
مبدأ نابليون
المختصر المفيد. فيما سبق، يتلخص بمبدأ نابليون. عندما سأله أحد جنوده قبل اندلاع معركة «واترلو» التاريخية: هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنكليز البروتستانت؟ فأجابه: «الله مع أصحاب المدافع الأكبر».
Leave a Reply