لم يعرف الجبل تفجيرا مثله والرسائل متعددة الاتجاهاتتاريخه الوطني والمقاوم أوصله إلى الاستشهادلم يحصل أن تفجيراً وقع في الجبل، منذ اندلاع الحرب الأهلية قبل أكثر من ثلاثين عاماً، كحادث تفجير سيارة القيادي في الحزب الديموقراطي اللبناني صالح العريضي في بلدته بيصور، وأودى بحياته فوراً.فلم يتعرض الجبل الجنوبي لمثل هذه الحوادث، سوى الاغتيال الذي تعرض له المرحوم كمال جنبلاط في 16 آذار 1977 بإطلاق النار عليه، ثم في اغتيال المرحوم أنور الفطايري في عام 1988 في الجاهلية، وألقي القبض على القاتل فوراً ويدعى يوسف العياص، ولكن دون أن تعرف الدوافع وراء الجريمة، ولم يصدر تحقيق أو حكم قضائي رسمي، وبقيت القضية قيد الكتمان والمعلومات عند الحزب التقدمي الاشتراكي الذي ينتمي إليه القاتل، وقيل في حينه، إن السبب هو الانزعاج من لقاء المصالحة الذي حصل بين الدروز والمسيحيين في بيت الدين بدعوة من وليد جنبلاط وبمباركة من بكركي وبعض القوى المسيحية، وإن اغتيال الفطايري جاء رداً على المصالحة، وهو كان يقوم بجولة مع رئيس بلدية دير القمر آنذاك جورج ديب نعمة المحسوب على آل شمعون وحزب الوطنيين الأحرار وأصبح نائباً في ما بعد على ثلاث دورات على لائحة جنبلاط، وكتلته النيابية.وقد حصلت خلال الحرب الأهلية عمليات قتل وتدمير منازل ومؤسسات وتفجير سيارات، ولكن هذه الحوادث كانت توضع في خانة الفعل ورد الفعل أثناء الاقتتال الطائفي في الجبل خصوصاً ولبنان عموماً.إلا أن تفجيراً سجل في عاليه في نهاية أيار من العام 2007، وفي السوق التجاري، عبر عبوة ناسفة اقتصرت على أضرار مادية، ووجه الاتهام فوراً من جانب الحزب التقدمي الاشتراكي الذي رأى أنه هو المستهدف من النظام السوري ووجه الاتهام إليه، وشنّ حملة على من يراهم حلفاء سوريا في الجبل، وتعرض لأعضاء في أحزابها كالحزب الديموقراطي اللبناني برئاسة الوزير طلال أرسلان، ونال الشهيد صالح العريضي نصيبه بتكسير سيارته، والحزب السوري القومي الاجتماعي وتيار التوحيد برئاسة الوزير السابق وئام وهاب. وقد بينت التحقيقات الأمنية والقضائية، أن من يقف وراء التفجير هو «فتح الإسلام»، التي في اليوم الذي اشعلت فيه معارك مخيم البارد بقتل 18 عسكرياً في الجيش اللبناني أثناء نومهم في مخيمهم، بدأ مسلسل التفجير من الأشرفية إلى فردان فعاليه.واغتيال العريضي، بتفجير سيارته، كان حدثاً مفاجئاً، إذ حصل في توقيت يعيش الجبل أجواء تفاهم بين جنبلاط وأرسلان، وانفتاح الحزب التقدمي الاشتراكي على «حزب الله» وتأليف لجنة أمنية مشتركة لحل أي إشكال يقع بينهما، وهو وقع بعد اتفاق الدوحة، ودخول البلاد في أجواء الوفاق بعد انتخاب رئيس الجمهورية، وتأليف حكومة وحدة وطنية واكتمال عقد المؤسسات، وخفض جنبلاط لخطابه التحريضي ضد المقاومة ودعوته إلى القبول بسلاحها ضمن استراتيجية دفاعية، وإظهار مواقف ايجابية من المقاومة، وهذا ما أزعج رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي اعتبره جنبلاط غير ناضج سياسياً، ويتأثر بمجموعة من المستشارين الحاقدين، وكذلك «القوات اللبنانية» التي ينظر إليها زعيم المختارة على أنها عبء عليه، وهو يريد أن يتخلص من ترشيح النائب جورج عدوان على لائحته في الشوف، ويفك تحالفه معها، وهو بدأ يذكر بماضيها الانعزالي وارتباطها بالعدو الإسرائيلي، وهو ما ترك البعض يضع احتمال ان تكون رسالة التفجير الى جنبلاط للتحول الذي بدأه.ففي ظل الأجواء الوفاقية في الجبل ومد خطوط التواصل بين الحزب الاشتراكي و«حزب الله»، وانفتاح جنبلاط على الرئيس نبيه بري والاتفاق معه على جولة يقومان بها معاً في الجبل وعلى بعض قراه التي شهدت صدامات مسلحة، لتحقيق مصالحة شيعية-درزية، وقد قطعت هذه الاتصالات شوطاً متقدماً، نفذ المجرمون جريمتهم مستهدفين المناخات التصالحية التي تكرست في طرابلس، فكان استهداف صالح العريضي، لأنه عمل للمصالحة ولكن من ضمن خط المقاومة والعلاقة مع سوريا. وإن اختيار العريضي برأي محللين ومراقبين سياسيين، كان لعدة أسباب منها:1- كان أشد الحريصين عدم جر الجبل إلى فتنة درزية-شيعية.2- وقوفه إلى جانب المقاومة ودعمه لها، وتأمين مناخ شعبي في الساحة الدرزية مؤيد ومحتضن لها.3- تأسيسه مع شخصيات لها تجارب سياسية وحزبية «للتيار المدني المقاوم» في الجبل.4- استمرار علاقته بالمسؤولين السوريين وزياراته المتكررة لدمشق.5- ممثل الحزب الديموقراطي في لقاء الأحزاب، والدور الذي كان يقوم به كمنسق مع «حزب الله» وحزبه.كل هذه الأسباب دفعت بالمخططين للجريمة إلى التركيز على الشهيد العريضي، ومن اغتياله يصيبون أكثر من حجر بخلق عدم ثقة بين الجنبلاطيين والأرسلانيين، إذ ثمة نفوس معبأة بين الطرفين نتيجة موقف وموقع كل منهما في مشروع وتحالف سياسي مختلف عن الآخر، وإن تفجير السيارة في بيصور القريبة من كيفون البلدة ذات الكثافة الشيعية، والتي لم يحدث أن حصل أي اقتتال بين اهاليهما، الا ما جرى إثر حوادث 7 أيار في بيروت، ومحاولة البعض نقل الفتنة إلى الجبل، فتم التصدي لها، بعدما سلّم جنبلاط بهزيمته في بيروت، وعدم قدرته على الصمود في الجبل، حيث قرر الانسحاب من المعركة بتسليم مراكزه إلى الجيش وتفويض الوزير طلال أرسلان التفاوض على تسليم سلاحه، وكان القصد من التفجير إعادة إشعال فتنة بين كيفون وبيصور، حيث رافقت العملية موجة من الشائعات والأكاذيب، أطلقتها أبواق معروفة، تحدثت عن أن السيارة فُخّخت في الضاحية، أثناء حضور العريضي إفطاراً هناك، حيث نفى سائقه أن يكون ترك السيارة. بل بقي فيها والى جانبها ، وقد وضعت العبوة بالقرب من المكابح، ولا يمكن للمسافة بين الضاحية وبيصور أن تبقي العبوة في مكانها، والمعلومات الأمنية أشارت إلى أنها وُضعت في بيصور وخلال الوقت القصير الذي عاد به الشهيد صالح العريضي وركن السيارة قرب المنزل، وعاد لينقلها من مكانها، وأن كل العملية جرت في أقل من ساعة، بين وصوله إلى بلدته والتفجير الذي تم لاسلكياً حسب الخبراء العسكريين ومن مسافة قريبة، وفي منطقة مكتظة بالسكان الذين يعرف بعضهم بعضاً.أما من يقف وراء التفجير، فالاحتمالات كثيرة، لأن المستهدف هو من المعارضة التي يتعرض أحد منها للاغتيال للمرة الأولى، منذ بدء مسلسل الاغتيالات قبل أربع سنوات، وقد تزامنت المتفجرة بعد يوم من دعوة العماد ميشال سليمان إلى طاولة حوار في قصر بعبدا برئاسته، للبحث في استراتيجية دفاعية للبنان، ومحاولة بعض اطراف في قوى 14 شباط حرف الحوار عن هدفه، نحو البحث في موضوع سلاح المقاومة واستخدامه في الداخل، تحت ذريعة أن كل الحوادث تحصل نتيجة ذلك، منذ الاعتصام في ساحة رياض الصلح 1 كانون الأول 2006 إلى العصيان المدني والتظاهر في 23 كانون الثاني 2007، وما تبع ذلك من إشكالات في جامعة بيروت العربية، إلى المعارك المتنقلة في أكثر من منطقة في لبنان، في سعدنايل وتعلبايا، وجبل محسن وباب التبانة، إلى تحرك المعارضة في 7 أيار في بيروت لمواجهة قرار الحكومة حول سلاح الاتصالات في المقاومة، وامتداد هذه المواجهات إلى الجبل.وقد حُصر ما حصل في بيروت والجبل، مع تمكن المعارضة من السيطرة على الوضع عسكرياً، ومنع حصول معارك بحيث سهلت انتشار الجيش الذي تسلم مكاتب «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي سارع رئيسه إلى إعلان الاستسلام وهزيمة مشروعه السياسي مع حلفائه، وتسلل إلى أحد أطراف المعارضة الدرزية الوزير طلال أرسلان، وتفاهم معه على أنه سيحفظ له حصته النيابية والوزارية، على أن يتم الخروج من المأزق الذي وقع فيه، وقد مثّل موقف جنبلاط إحباطاً ويأساً لدى محازبيه وأنصاره واحتج فريق منهم، ممن تركهم يستمرون في القتال، وطالبه بأن يتركهم يستمرون قي القتال، وقد برزت جماعة لم تكن معروفة وتابعة «للداعي عمار» يرأسها الشيخ علام ناصر الدين، وهو من ديرقوبل حيث كمنت هذه المجموعة في الشويفات لأحد قياديي المقاومة العسكريين ناصر العيتاوي (أبو الفضل) الذي يعرف بأسد معركة الحجير، التي تكبّد العدو الإسرائيلي فيها خسائر بشرية وفي دبابات «الميركافا» في اثناء العدوان الاسرائيلي صيف 2006، فقتلته جماعة «الداعي عمار»، فكانت ردة فعل «حزب الله» الانقضاض على هذه المجموعة وتصفية 11 منها.وفي هذا الإطار، تكشف المعلومات أن أتباعاً لعلام ناصر الدين أقسموا على الثأر من المقاومة وحلفائها في الجبل، وأعلنوا أن معركتهم مستمرة بالرغم من جهود التهدئة والمصالحة، وبدأوا بشراء الأسلحة والتدريب، مما أثار تساؤلات عن دور هذه المجموعة، وهل لها من ارتباطات خارجية، وممّن تتمول، إذ نقلت مواقع الكترونية عن اتصالات لها مع مستعربين في إسرائيل، ومن الدروز المتعاونين مع الاحتلال.وكشفت التحقيقات الأولية أن العبوة التي انفجرت في سيارة العريضي، شبيهة بتلك التي زرعت في سيارة جورج حاوي وسمير قصير وأدت إلى استشهادهما، وفي الأسلوب نفسه لاغتيال الأخوين مجذوب في صيدا، في أيار 2006، وأوصلت التحقيقات في هذه الجريمة إلى كشف شبكة إسرائيلية تضم محمود رافع من حاصبيا وحسين خطاب فلسطيني من مخيم عين الحلوة، وهما يقفان خلف عملية اغتيال الأخوين المجذوب، وقد أُلقي القبض على رافع وفر خطاب إلى إسرائيل، وقد اعترف الأول بارتكابه الجريمة، وأن «الموساد الإسرائيلي» جنٌده. وأدى اكتشاف هذه الشبكة إلى وضع احتمالات أن تكون عمليات التفجير والاغتيالات الأخرى من صنع إسرائيل وعملائها، وهو ما دفع برافي ماديان نجل الشهيد حاوي، إلى اتهام هذه الشبكة بأنها قد تكون وراء اغتيال والده، وهو الاحتمال نفسه أن يكون الشهيد صالح العريضي قد سقط على يد عملاء إسرائيل الذين عادوا يعملون في لبنان. واعلن قادة العدو بعد حوادث 7 أيار الماضي أن ما بنوه في لبنان من دعم لقوى 14 شباط التي تسلمت السلطة، قد اندثر مع سيطرة «حزب الله» وحلفائه على القرار اللبناني، وبات من الضروري العمل مباشرة ضد هذه القوى ومنعها من أن تعيد سيطرتها على لبنان ونفوذ سوريا وإيران أيضاً، ويتفق هذا الموقف مع توجهات قوى 14 شباط والإدارة الأميركية وحلفائها من المعتدلين العرب كالسعودية مصر والأردن.لذلك فإن احتمال أن يكون العريضي قد اغتيل على يد إسرائيل وعملائها، متقدم على غيره من الاحتمالات لتاريخ الشهيد النضالي ودوره في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجبل ودعمه للمقاومين من أبناء بلدته بيصور الذين نفذوا عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي واشتبكوا مع جنوده في معركة عنيفة في منطقة «الرادار» في البلدة، واعتُقل العديد منهم وزجوا في سجون الاحتلال.وهذا النهج الذي رسمه الشهيد صالح مع المقاومة الوطنية، أكمله مع «المقاومة الإسلامية» فاحتضنها، وعندما تعرضت أخيراً لمحاولات نزع سلاحها، كان إلى جانبها مع القوى الوطنية المعارضة في الجبل، واستطاع من خلال اتصالاته مع مسؤولي «حزب الله» أن يجنب بيصور وكيفون والقماطية وعاليه وعيتات كما الشويفات، الاقتتال وحصول فتنة درزية-شيعية، كان الفريق الإسرائيلي داخل الطائفة الدرزية ساعياً لها، بالتعاون مع مسؤولين في الحزب التقدمي الاشتراكي كانوا على علاقات مع العدو الإسرائيلي أثناء الاجتياح عام 1982، تحت ذريعة حماية الجبل من «القوات اللبنانية» التي دخلت إليه مع قوات الاحتلال، وقامت بعمليات خطف وقتل وتصفيات، فاستغلّت إسرائيل ذلك وبدأت من خلال ضباط دروز في الجيش الإسرائيلي الاتصال ببعض المشايخ ومسؤولين اشتراكيين لمساعدتهم بوجه زالقوات اللبنانيةس والكتائب، ووقع الجبل في فتنة أدت إلى تهجير المسيحيين والمناداة بإقامة دولة درزية، وتنبهت سوريا إلى هذا الأمر واستعادت جنبلاط إلى موقعه الوطني والعروبي ومكنته مع القوى الوطنية اللبنانية الفلسطينية من تحرير الجبل من إسرائيل وعملائها.وهناك من يحاول اليوم استعادة تلك التجربة، تحت عنوان الدفاع عن الجبل وببعد طائفي ان الدروز بخطر، ولكنه يستهدف المقاومة التي يقف إلى جانبها فريق لا بأس به من الوطنيين الدروز، الذين تحركوا لمنع استهداف المقاومة وسلاحها، وقد تنبه جنبلاط إلى أن هذه المرة المعركة مختلفة عن العام 1982، حيث توحّد الجبل في وجه إسرائيل وعملائها بدعم من سوريا، وقد أدرك جنبلاط خطأ ما فعله ضد المقاومة، فعاد ليتحدث عن العروبة وفلسطين وعدم نزع سلاح المقاومة والاتفاق على كيفية العمل على الاستفادة من هذا السلاح بوجه إسرائيل وخطرها، وهذا الخطاب هو خطاب المعارضة والمقاومة، وقد فتح له باب المصالحات، وسبق أن جرى تنبيه جنبلاط من مغبة الرهان على المشروع الأميركي، لا سيما من الوزير وئام وهاب رئيس «تيار التوحيد»، الذي تنبأ باكراً بأن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي لن يستمر في مشروعه لأنه لا يستطيع أن يأخذ الدروز إلى غير موقعهم الوطني والقومي، وهذا ما حصل، وبدأ ينتقل من موقع إلى آخر، وسيدفع ثمناً سياسياً، وهو انه لن يستمر يقرر وحيداً داخل الطائفة، وستشاركه كل قوى المعارضة الدرزية في القرار على أساس الثوابت التي تؤمن بها واقتنع جنبلاط بالعودة اليها.فجنبلاط الخائف من تفتيت المنطقة، ومن عودة التوتر العالمي الذي بدأ يطل في جورجيا والقوقاز، قلق ايضا من أن سياسته خلال السنوات الأربع الماضية المرتبطة بالمشروع الأميركي، قد تخرج عن سيطرته، ويقوم فريق من داخل تياره الجنبلاطي، ويركب مركب التقسيم الذي بدأ يهب من العراق الذي يعيش عملية التفتيت.وما زرعه جنبلاط من رهان على «الشرق الأوسط الجديد»، وديموقراطية جورج بوش قد بدأ يحصد ثماره من خلال اختراقات للجبل وانفتاح الساحة اللبنانية أمام كل الاستخبارات كما قال، ومن خلال الطروحات التي عادت عن «الدولة الدرزية» أو «الإمارة الدرزية»، فهو لا يستطيع تحمل قيام «إسرائيل ثانية» أو تكون الدولة المزعومة حارسة لحدود إسرائيل، وحاجزاً أمام المقاومة، ومثل هذه الدولة لا وجود لمقومات لها جغرافياً ولا اقتصادياً. وإن رفع شعارات الطائفية والخطر على الوجود الطائفي للدروز، لا ينتج إلا «أصولية درزية»، مثل كل الأصوليات الدينية الأخرى التي تنمو في لبنان في ظل أجواء الشحن الطائفي والمذهبي المغذّى بالتمويل الخليجي والأميركي والإسرائيلي.
Leave a Reply