عندما دعا زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن «شعوب المنطقة» إلى إستقبال الرئيس الأميركي بالتفجيرات والسيارات المفخخة، لم يكن يقصد إستهداف مؤسسات أو مصالح أميركية، كما أثبتت عمليات «قاعدته» السابقة التي طالت حكومات دول المنطقة وشعوبها بمؤسساتها الحيوية التي تشكل ركائز استقرارها. فإذا ما استثنينا إعتداءات الحادي عشر من أيلول الإرهابية التي ضربت العمق الأمني والإقتصادي الأميركي، فإن تلك العمليات اقتصرت على ضرب مصالح «شعوب المنطقة» التي يخطب بن لادن ودها هذه الآونة وأذهبت أرواح مئات الأبرياء كما في فنادق شرم الشيخ المصرية وعرس فندق الحياة في عمان والمباني الحكومية في العاصمة الجزائرية وسواها من الأهداف التي لم تهتز لها شعرة في «رأس أميركا».
وعلى خلاف ما دعا إليه بن لادن من «إستقبال» للرئيس الأميركي، فقد أغدقت عليه الدول العربية المضيفة، من «دولة رام الله» في الضفة الغربية، إلى دول الخليج العربي باستقبالات لم يرها رئيس أميركي زائر من قبل: فمن الرقصات التراثية بالسيوف في «عرضة البحرين» إلى مهرجان دبي الفولكلوري الذي برز فيه أطفال الإمارة كجيل ينمو على حب أميركا وما تمثله من «قيم»، إلى كرم الضيافة العربية بصورته البكر في الخيم الصحراوية ومآدب الشواء في العراءمحروسة بالصقر العربي، «حليف» النسر الأميركي ومحمولاً بزهو على راحة الرئيس بوش ووصولاً إلى المملكة السعودية وجيادها العربية الأصيلة التي «رفعت» الأعلام الأميركية مع السعودية إحتفاء بالزائر الكبير، ثم تتويج الزيارة بصفقة الأسلحة المقدرة قيمتها بعشرين مليار دولار فقط لا غير!نحسب أن بن لادن، نزيل المغاور والكهوف، إستقبل، بفضل التكنولوجيا الأميركية التي أنجبت ثورة الإتصالات بين أربع زوايا الكون، مشاهد الحفاوة العربية من «صالون» إحدى الكهوف الأفغانية المضاءة بموّلد من صنع أميركي أو غربي على الأرجح، طالما أن «الأمة» لم تصل بعد إلى صناعة مولّد كهربائي.. إستقبل هذه المشاهد بشيء من الإحباط والغضب، خصوصاً أن الشارع العربي بعمومه لم يتحرك للتنديد بزيارة بوش، بل تابعها بـ«شغف» عبر الفضائيات العربية، باستثناء تلك التظاهرة «الحضارية» على بعض أرصفة المنامة التي رفعت شعارات مكتوبة للمعارضة الشيعية لشيخ الجزيرة ومليكها، وتلك التظاهرة الخجولة لبعض القوى الإسلامية والناصرية المصرية في أحد أحياء القاهرة التي بالكاد سمعت هتافاتها الأحياء الأخرى من العاصمة المصرية، ناهيك بالعواصم والمدن العربية الأخرى.وحدها العاصمة اللبنانية بيروت بدت «مستجيبة» لنداء بن لادن أو متقاطعة مع رغبته باستقبال ناري للزيارة، في التفجير الذي ضرب منطقة الكرنتينا.غير أن نيران هذا التفجير الإرهابي لم تنل سوى من الزجاج الأمامي لـ«الهدف الأميركي» المتمثل بموكب صغير تابع للسفارة الأميركية، وأحرقت هذه النيران لبنانيين إثنين بريئين داخل سيارتهما، أحدهما لم يمض على زواجه ثلاثة اشهر وآخر لا يزال يعيش فرحة مولوده الأول، ومواطن سوري كادح كان معهما في السيارة ويعملون سويا لتأمين قوت عيالهم. ونحو ستة وعشرين جريحاً طاولهم «الرد» على زيارة بوش داخل بيوتهم وأسال دماءهم، هذا فضلاً عن الدمار الكبير الذي أصاب تلك المنطقة الصناعية من العاصمة اللبنانية التي يعتاش في أحضانها الفقراء.كانت بيروت وحدها «تودّع» كما يرغب بن لادن، الرئيس الأميركي الذي لم يطأ أرضها والمفعم بالغبطة، والمتخمة خزائن وأرصدة شركاته الأميركية بأموال صفقات السلاح التي أبرمت. بدت بيروت بإرهابييها الخارجين من جحورهم «أوفى» من سائر العواصم لنداء بن لادن المستعجل والمستحيل. انتقمت العاصمة اللبنانية من نفسها ومن صورتها ومن ناسها الأبرياء الفقراء الساعين في البحث عما تبقى لهم من حياة بعيداً عن حفلات التشاتم الفضائي التي إمتهنها ساسة لبنان في هذا المرحلة الحرجة من تاريخ بلدهم ومصير «شعوبه». لطخ هؤلاء الإرهابيون القتلة أياديهم بدماء الأبرياء مرة أخرى في مسلسل التفجيرات والإغتيالات الذي سلك هذه المرة وجهة جديدة ولكنه لم يرحم العابرين كما في كل الجرائم السابقة. كانت العواصم العربية كلها تلوذ بالصمت وتمضي في سبل تطوير بناها العمرانية والبشرية المستعرضة بفخر أمام الزائر الأميركي. بيروت التي يراد لها دائماً أن تترجم غريزة حب البقاء السياسي وشعارات الممانعة اللفظية للمشروع الأميركي. بدماء أبريائها، كانت تعيش، للمفارقة، «أزمة رغيف» (ولو مفتعلة) في ضاحيتها الجنوبية، خصصت لها إحدى الفضائيات اللبنانية «الممانعة» تحقيقاً خاصاً مطولاً، نقل من شوارعها عينات من غضب المواطنين ويأسهم من عدم تمكنهم من الحصول على خبزهم كفاف يومهم، هؤلاء هم جزء من «شعوب المنطقة» التي يريد لها طريد العدالة الأممية وأحد ميسوريها الأشاوس، وحلفاؤه الموضوعيون، أن تقاتل الزيارة الرئاسية الأميركية بأجساد السيارات المفخخة وأجساد العابرين والقابعين خلف نوافذ قلقهم ويأسهم مما آلت إليه أوضاع «الأمة».بيروت كانت تحبس أنفاسها لعودة أمين عام الجامعة العربية لعل في جعبته هذه المرة «تفسيراً» للمبادرة العربية يجمع عليه الساسة اللبنانيون الذين فتحوا معاجم تفاسيرهم للمبادرة وأشبعوها وصفاً، كل بما يلائم توجهاته ورؤيته لـ«لبنانه» الخاص، تاركين لبنان الدولة والكيان في حواشي الكلام المُبهم عن «أي دولة نريد» وفي عصف التساؤلات عن المصير والكيان. بيروت التي كانت يوماً عاصمة للثقافة والفنون والحريات وملاذ الهاربين من جحيم الدكتاتوريات العربية باتت عاصمة لبريد الرسائل المتفجرة في أجساد بشرها وعمرانها وإقتصادها. بيروت نزال قباني وقصائد الغزل ومراثي الكبار في العالم العربي، صارت فضاءً لبيانات شاكر العبسي التي يهدّد فيها جيشها الوطني ويبث في هوائها سمومه الطائفية والمذهبية.بيروت التي كانت ست الدنيا في مخيلة الشعراء ولؤلؤه الشرق المشعة بأنوار إنفتاحها وتسامحها، باتت تنام على وسادة الخوف وتصحو على أزير الكلام – الرصاص الذي ينفثه الجاحدون لنعمتها، في وسائل الإعلام التي يمتلكونها ويأسرون بواسطتها بسطاءها وبسطاء الوطن الطيبين في دوائر القلق المقفلة على معاناتهم وصبرهم وقلة حيلهم بإزاء إستثمارهم ومصائرهم في بورصة مصالحهم المتأرجحة في أسواق الإكتتاب لهذه الدولة أو تلك من دول الإقليم.كل العواصم من «المحيط الهادئ إلى الخليج الثائر» تنامُ على حرير التفاهمات بين الطامحين إلى نفوذ إقليمي واسع ومؤثر والخائفين من هذا الطموح على مصالح دولهم وأنظمة حكمهم، إلا بيروت تنام على ارق الفتنة وتغرق في ظلام الخوف من العدو وما يحمله لأهلها وضواحيها وأهلهم من مفاجآت دموية كامنة على المفترقات والتقاطعات.كل المصالح العربية والإقليمية تتقاطع فوق خراب بيروت ولبنان، إذ هي منه القلب، وكل الشعوب العربية باستثناء الشعب الفلسطيني الغارق في دمه بين غزة والضفة الغربية، تتطلع إلى المزيد من الأمن والإستقرار إلا الشعب اللبناني المنقسم بقوة الأمر الواقع الإقليمي والدولي، والمساق كالأنعام إلى خانات سياسييه الطائفية والمذهبية المتعفنة، لتحشيده إلى جولات جديدة من العنف والإقتتال في لعبة صراع الديكة القذرة التي يقهقه لمشهدها المتفرجون الإقليميون والدوليون على غبائنا وقصر نظرنا وقلة إعتبارنا، مما اصابنا في حربنا الأهلية البشعة التي يزينونها لنا من جديد كـ«آخر حلّ» ستتفتق عنه الأذهان المريضة، إذا لم ينصع طرف لرغبة طرف إنصياعاً طرديا لرغبات المخرجين القابعين وراء الستارة في هذه المسرحية الهزلية – المأساوية التي تتوالى فصولها أمام أنظارنا ولا تُحرك إزاءها ذرة من ضمير اللاعبين والممثلين في أدوارهم المرسومة بعناية، لا يزيحون عنها ولو بجملة إعتراضية من خارج النص الأسود المُملى عليهم.وحدهم لبنانيو الإغتراب قادرون على الرؤية الواضحة لبشاعة المشهد الذي يغرق فيه وطنهم، لكنهم، للأسف يجنحون إلى الإنقياد وراء ما تحمله لهم الفضائيات اللبنانية والعربية من تشوية وتعمية لحقيقة أسر بلدهم في غرفة إنتظار مصالح الآخرين ومشاريعهم.وحدهم اللبنانيون المتحررون من ضغط لقمة العيش وحبة الدواء وقسط المدرسة ورعب الإنتقال من المنزل إلى العمل، قادرون على رفع الصوت في وجه كل السياسيين الذين يتغنون بإرث المهاجرين وإنجازاتهم وإبداعاتهم في الخارج ويتكئون عليها في مواصلة العبث بمقدرات الوطن بأنهم ليسوا رصيدا لمن يسلبهم ويسلب أهلهم المقيمين حلم العودة أو العيش في واحد من أجمل أوطان الدنيا.أهلنا في لبنان، ليسوا بحاجة إلى دعمنا لتكريس إنقساماتهم المفروضة عليهم بقوة الحاجة إلى ولاءات تحركها ضرورات العيش من يوم إلى يوم، بعدما كرس الطائفيون أنفسهم حواجز بين المواطن والدولة وجعلوا الطائفة ثم المذهب، معبراً إلزامياً للحصول على خدماتها البديهية لمواطنيها.أهلنا في لبنان بحاجة إلى موقف إغترابي موحّد وضاغط ومتحرّر من الولاء الحزبي والطائفي والمذهبي لإخراجهم من نفق أزماتهم الخطيرة والداهمة.لبنان بحاجة إلى كل صوت عاقل وإلى كل ذرة ضمير وإلى كل جهد مخلص لإنقاذه من براثن الموت الذي يتهدّده كل لحظة إذا انفجرت غرائز الشارع التي أشبعوها شحناً وتوتيرا.لبنان الشعب والدولة والكيان يستصرخ ضمائرنا جميعا فماذا نحن فاعلون؟
Leave a Reply