انتشار الأسلحة .. وسياسة النعامة
في الوقت الذي كان فيه العالم يتهيأ للاحتفال بأمسية «عيد الحب»، وجد الأميركيون أنفسهم في مزاج آخر على وقع الأنباء الورادة من مدينة باركلاند بولاية فلوريدا حيث أقدم أحد الطلاب على مهاجمة مدرسته الثانوية ليرديَ 17 قتيلاً وعشرات الجرحى، في عملية قتل جماعي وصفت بأنها بين الأسوأ منذ ربع قرن.
كالعادة، وفي أعقاب حوادث القتل الجماعي التي لا تكاد تغيب عن المشهد الأميركي عاد السؤال العويص إلى الواجهة مرة جديدة للاستفهام عما يجري بالبلاد، ومفاده: هل تعاني أميركا من أزمة انتشار الأسلحة الفردية أم أنه وباء الأمراض العقلية؟ خاصة على ضوء المعلومات المتوافرة في هذا المجال، حيث أشار موقع «شوتينغ تراكر.كوم» –وهو موقع يرصد حوادث القتل الجماعي باستخدام أسلحة نارية فردية– إلى وقوع ٣٠ حادث قتل جماعي في الولايات المتحدة خلال العام الجاري، وهي الجرائم التي تسفر عن مقتل أو جرح ما لا يقل عن أربعة أشخاص.
فلوريدا نفسها، كانت قد شهدت في حزيران (يونيو) 2016 مجزرة مروعة أودت بحياة 49 شخصاً وجرح 53 آخرين بمدينة أورلاندو، غير أن ليست الولاية الوحيدة في القائمة الطويلة من ضحايا العنف المجاني، فمعظم الولايات الأميركية شهدت جرائم لا تقل دموية في وحشيتها ولا غموضاً في دوافعها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، حوادث القتل الجماعي في أورورا (كولورادو) ونيوتاون (كونيتيكت) وسان برنادينو (كالفورنيا) وساذرلاند سبرينغز (تكساس) ولاس فيغاس (نيفادا) وغيرها.
ورغم أن القاسم المشترك بين جميع تلك الجرائم كان الهجوم بالأسلحة النارية الآلية، أو شبه الآلية، وتحديداً «أي أر ١٥»، إلا أن الإدارة الأميركية الحالية وفي مقدمتها البيت الأبيض، لا تبدو أنها بصدد إعادة النظر في فوضى انتشار الأسلحة مستندة إلى نفس الأسطوانة المشروخة (عدم المساس بالتعديل الثاني)، ولربما لم يندهش الأميركيون المكلومين من الرئيس دونالد ترامب حين تعهد في خطاب مقتضب ألقاه –الخميس الماضي– بالتصدي «للمشكلة الصعبة المتمثلة بالأمراض النفسية»، متجاهلاً تماماً النقاش الدائر في البلاد حول انتشار الأسلحة النارية التي تزهق أرواح ما يزيد عن 30 ألف أميركي سنوياً.
الرئيس الذي وعد باستعادة عظمة أميركا خلال حملته الانتخابية، والذي ما فتئ يثير –بمناسبة وبدونها– الجدل حول القضايا الإشكالية في الولايات المتحدة، تصرف كالنعامة عندما تعلق الأمر بحوادث القتل الجماعي ومصالح لوبي الأسلحة الذي كان أول داعميه، فدفن سيد البيت الأبيض رأسه في الرمال، معرضاً عن كل الدعوات التي تحاول لجم انتشار الأسلحة بين الأفراد، وإعادة التفكير بسهولة توفرها، لكن الرئيس المتهور.. لم يمتلك حتى الآن الجرأة للإعلان عن أن الزمن تجاوز الظروف التاريخية التي منحت دستورياً كل مواطن أميركي حق حمل السلاح، رغم أنه يدرك تماماً بأن الجنون والأمراض العقلية المتفشية في المجتمع الأميركي، لا يمكن تجاهلها على الإطلاق. ولكنه بالطبع لن يعلو على الشعار المفضل لدى «الجمعية الوطنية للأسلحة» –أو لوبي الأسلحة (أن آر بي)– القائل: «الأسلحة لا تقتل.. البشر يفعلون!».
نجم «تويتر» لجأ –كما هي العادة في حوادث من هذا النوع– إلى الإعلان عن آرائه «القيمة» لدرجة أنه تفوق على نفسه هذه المرة، حين أشار في تغريدة نشرها على السوشال ميديا إلى أن القاتل «مختل عقلياً»، والدليل –بحسب ترامب– أنه «طرد من المدرسة لسلوكه السيء وغير المنتظم»!
وبدلاً من تحمل مسؤولياته الرئاسية والبحث عن وسائل حقيقية لتطويق ظاهرة العنف في الولايات المتحدة، دعا الأميركيين، مثل أي واعظ ديني، إلى «الرد على الكراهية بالحب، والرد على الوحشية بالتهذيب». والمفارقة أن ترامب نفسه ليس مثالاً جيداً لهذه الأمثولة الأخلاقية. وهل كانت مجرد صدفة أن الرئيس اًتهم هو نفسه بأنه «مختل عقلياً»!
ما يؤلم أكثر في حادثة ثانوية فلوريدا الأخيرة، أن العنف غير المبرر قد بدأ يتسلل إلى طلاب المدارس الأميركية التي يفترض بها أن تكون منصات إعداد تربوية وأخلاقية بالدرجة الأولى، وإذا كانت الاختلالات النفسية والعقلية هي الدوافع الحقيقية وراء جرائم من هذا النوع، فهذا يعني أن «الوباء» قد بات يخترق المؤسسات التي من المفترض أن تكون الأكثر حصانة في البلاد. ومجرزة الأربعاء الماضي هي حادثة القتل الجماعي رقم 18 في المدارس الأميركية خلال العام الجاري. وعلى ضوء هذه الوقائع لا بد من قرع جرس الإنذار والمبادرة إلى حلول واقعية لتطويق العنف المستشري بين طلبة المدارس.
في السياق ذاته، تصرف الولايات المتحدة مئات مليارات الدولارات على قواعدها العسكرية ووكالاتها الاستخباراتية لحماية الأميركيين من التهديدات الواقعية والمتوقعة على حد سواء، ولكنها لا تنجز الكثير في هذا المضمار على الصعيد الداخلي، حيث تشير الأرقام إلى أن عنف الأسلحة النارية تسبب بقتل 42 شخص يومياً، في 2017.
نعم، يا سيادة الرئيس، ربما تكون أميركا «مريضة»، لكن العلاج لا يكون بالوعظ، وإنما في إصلاح نظام العدالة وتشريع القوانين التي تضع مصالح الأميركيين –جميع الأميركيين كما تقول– فوق كل اعتبار. لقد آن الأوان أن تكون الولايات المتحدة ملكاً لجميع أبنائها، لا ملكاً لحفنة من الشركات العملاقة التي تضع أرباحها… فوق كل اعتبار!
Leave a Reply