لم تغب عن أذهان الكثيرين تلك الصورة صبيحة الحادي عشر من أيلول 2001، عندما كان الرئيس “المؤمن” جورج دبليو بوش ممسكاً بالمقلوب (!!) بكتاب صغير وهو يصغي الى تلامذة الروضة في إحدى مدارس فلوريدا، عندما تقدم منه أحد المساعدين وهمس في أذنه كلاماً خطيراً. امتقع وجه الرئيس للحظات، ثم استرسل مجددا في الإصغاء الى القصة، قبل أن يعود المساعد ليهمس في أذنه هذه المرة جملة هزت كيانه: “السيد الرئيس، أميركا تتعرض لهجوم!”.
في صبيحة عيد الميلاد، قبل نحو أسبوعين، كان الرئيس باراك أوباما يستمتع بإجازة عائلية في منزله بولاية هاواي، عندما حملت محطات التلفزة نبأ عاجلا عن محاولة تفجير طائرة أميركية قادمة من امستردام وهي على وشك الهبوط في مطار ديترويت.
بدا هذا النبأ العاجل “عاديا” للوهلة الأولى بالقياس الى كارثة الحادي عشر من أيلول، ولم تثر بعض التفاصيل الأولية المتوفرة عن المحاولة فضول الكثيرين، قبل أن تسلط أجهزة الاعلام الأميركية، ومعها العالمية الأضواء على خطورة هذه المحاولة التي نجح في تنفيذها إرهابي نيجيري، متخطيا جميع “البرازخ” الأمنية التي تفصل ضفة الأطلسي عن القارة الأميركية.
التزم القادة السياسيون الأميركيون الكبار بدءا من الرئيس، صمتا مريبا على مدى عدة أيام، تاركين لمسؤولي مكتب التحقيقات الفدرالي وأجهزة وزارة الأمن الداخلي الأميركية الأخرى ترف التحليل والتخمين عن الثغرات التي نفذ منها طالب الهندسة النيجيري ونجل أحد كبار المصرفيين في البلد الغرب أفريقي الغني بالنفط، قبل أن يقع هؤلاء المسؤولون في تناقضات عجلت في استفاقة سياسية شاملة على مستوى الإدارة، جاءت مدفوعة بـ”غضب الرئيس” من هذا الإخفاق الخطير في الإجراءات الأمنية الذي أدى إلى نجاح الشاب عمر الفاروق عبدالمطلب في اختراق الإجراءات الأمنية شديدة الخطورة في مطار العاصمة الهولندية.
في الأثناء كان الإعلام الأميركي يعرض “صورة هوليودية” لأحد ركاب طائرة الـ”نورث وست” الذي أفلح في الانقضاض على الارهابي بعدما خانه الحظ في تدبير صاعق تفجير الشحنة الناسفة في أجواء ولاية ميشيغن، معوضا ببطولته فشل الأجهزة الأمنية ووسائل المراقبة في اصطياد هذا الإرهابي. كان إخفاق المحاولة بمثابة “النصر المبين” الذي حققته يقظة الركاب على أعتى قوى الإهاب، وسرت الرواية المنقولة عن سرعة السيطرة على الإرهابي في الشرايين المتوترة لملايين الأميركيين والمسافرين حول العالم، إلا أنها (الرواية) لم تكن لتهدئ من روع الأميركيين وغيرهم من أعداء “قاعدة” بن لادن، فانجذبت ملايين الآذان والقلوب للإصغاء إلى ما سيقوله الرئيس أوباما.
كان عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي قد سلموا الرئيس “رأس الخيط” في تحقيقاتهم الأولية مع الإرهابي الموقوف في مستشفى جامعة ميشيغن بعدما أصيب بحروق بالغة في الجزء السفلي من جسده جراء الحريق الناشب من محاولة التفجير الفاشلة للشحنة الناسفة. وتمثل “رأس الخيط” باعتراف عبدالمطلب بأنه تلقى الشحنة الناسفة والتدريبات على تفجيرها في إحدى “مدارس” القاعدة في اليمن.
ولم يلبث اسم هذه الدولة العربية البائسة والمبتلية بحرب ضروس مع فئة من مواطنيها يطلق عليهم اسم “الحوثيين” تيمناً بلقب شيخ طائفتهم الزيدية الشيعية.. لم يلبث أن احتل الشاشات و”برامج التوك شو” التي سلطت أضواءها على مدار الساعة على أوضاع هذا البلد العربي، الذي أوصله ضعف السلطة المركزية فيه الى حافة الانهيار، ما أغرى قيادة “القاعدة في جزيرة العرب” بمقرها الجديد في جنوبي الجزيرة، باختطاف ما سمي بـ”الحراك الجنوبي” ولخوض الجولة الأخيرة في معركة اسقاط النظام الوحدوي في الجزء الجنوبي من البلاد للانطلاق منه الى باقي المحافظات اليمنية والزحف نحو العاصمة صنعاء لإقامة نظام حكم “طالبان عربية” بالقرب من منابع النفط!
والحال أن الإدارة الأميركية ومعها حلفاؤها الغربيون (البريطانيون على الأخص) لم تكن مطمئنة الى صمود وتماسك نظام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي ينخره الفساد وتتقلص قبضة نفوذه على المحافظات اليمنية يوما بعد يوم. وهي (الإدارة) مدت لهذا النظام يد المساعدة الأمنية والاستخبارية مشفوعة بعدد من الغارات الجوية وبعض الصواريخ البعيدة المدى التي انصبت قبل حادثة محاولة تفجير الطائرة الأميركية، على مناطق في محافظة شبوة، قيل إن خسائرها بين المدنيين بلغت العشرات، ولم يعرف الحجم الحقيقي لخسائر تنظيم بن لادن جراء تلك الضربات.
وعلى مدى أيام تلت تصريح الرئيس أوباما الغاضب، انصب جل الاهتمام الإعلامي والسياسي الأميركي على اليمن بصفته “ملاذا آمنا للإرهاب”. فطار قائد القوات الميركية في الخليج الجنرال ديفيد بتراوس الى صنعاء، والتقى بالرئيس صالح، فيما كانت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ترسم صورة عن “الشروط والتوقعات” التي يمكن من خلالها مساعدة النظام اليمني على الصمود، فيما تداعى قادة الدول الغربية الى لقاء في لندن لمواجهة “أفغانستان عربية” تتبدى معالمها في صورة اليمن الحاضرة ولم تنس دول مجلس التعاون الخليجي إبداء دعمها القوي لليمن!.
هكذا بدأت تتشكل أولا بأول صورة شديدة الشبه بصورة ما بعد هجمات 11 أيلول في العام 2001. ولم يتلكأ الرئيس باراك أوباما في الاعلان عن مسؤولية تنظيم القاعدة في اليمن في محاولة تفجير الطائرة الأميركية، وهو ما اعتبر وفق قاموس المفردات السياسي للرؤوساء الأميركيين تمهيدا لإعلان الحرب على المسؤولين عن المحاولة. وهي حرب متصلة بأختها في أفغانستان بواسطة القوات الأميركية والغربية، وفي باكستان عبر النظام الحليف لواشنطن، وفي العراق من خلال الحكومة الحالية التي ترنحت في الأشهر الأخيرة تحت وطأة سلسلة من الضربات الموجعة نفذتها القاعدة بالتنسيق مع بقايا البعث في قلب المنطقة الخضراء الحصينة في العاصمة العراقية.
ولعل ما يثير الدهشة أن “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” سابق الرئيس الأميركي في إعلان مسؤوليته عن محاولة الاعتداء على طائرة الـ”نورث وست” في بيان حمل من التحدي والإصرار على تطوير وسائل اختراق الأمن الأميركي ما يثير الكثير من المخاوف في قادم الأيام والشهور، رغم اعترافه بإخفاق “المجاهد” عبدالمطلب في تفجير الشحنة.
ولم يلبث هذا التنظيم الذي باتت قيادته توصف بـ “الهيولية” نظرا لفقدان مركزيتها وهرمها القيادي والعملاني أن بعث برسالة دموية مدوية لأميركا عبر الهجوم الانتحاري الذي نفذه أحد العملاءالمزدوجين لتنظيم القاعدة الطبيب الأردني همام البلعاوي في مقاطعة خوست، على الحدود الأفغانية الباكستانية، بعدما نجح في إيهام كل من المخابرات الأردنية ونظيرتها الأميركية (السي آي أي) بولائه لهما، فنفذ ضربته المميتة بمجموعة من عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية داخل قاعدتها الاقليمية وفي هجوم وصف بالأسوأ على الوكالة منذ تفجير السفارة الأميركية في بيروت في خريف العام 1983 وسقوط مدير محطة بيروت بالوكالة بين عشرات القتلى آنذاك.
إنها الحرب المفتوحة، إذن، يعلن عن استمرارها كل من التنظيم الإرهابي الذي يستظل راية الإسلام، والأنظمة الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأميركية، والتي ستنتقل ساحتها هذه إلى أطراف الجزيرة العربية بما يفتح آفاقا جديدة لـ”الحرب على الإرهاب” التي أعلنتها الإدارة الأميركية السابقة بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول، ويجعل من اليمن “أفغانستان عربية” وهو البلد الذي عانى بعد 11 أيلول من معضلة “الأفغان العرب” الذين تدفقوا عليه بعد سقوط نظام طالبان في العام 2001، قبل أن يفتح الغزو الأميركي للعراق شهية القاعدة على الانتشار في ارض الرافدين وخوض حربهم “الجهادية” ضد الغزاة التي أغرقت العراق بدماء أهله على مدى السنوات الست الماضية.
غير أن تكرار التجربتين الأميركيتين في افغانستان والعراق على أرض اليمن سيكون من شأنه التسريع في “أفغنة” هذا البلد العربي ذي الموقع الجيوسياسي الفائق الحساسية والاستعداد لاحتضان نمط الفوضى الصومالية، والمساهمة في زيادة التطرف الأصولي والإرهاب في معظم أنحاء الجزيرة العربية وصولا الى القرن الإفريقي، والذي يخشى إذ ذاك أن يمنح “شرعية دينية” للإرهاب، تحت مسمى “الجهاد ضد الكفار” مما يسمح بالافتراض أننا سنكون أمام حرب طويلة الأمد وشديدة التعقيد، أين منها حربا العراق وأفغانستان، وهي حرب ستكون كفيلة بوضع منطقة الشرق الأوسط برمتها على فوهة بركان ملتهب لسنوات طويلة قادمة.
لي صديق يقضي جزءا من وقته في التمحيص في دلالات الأحداث ورموزها، ورغم موافقته على كل ما سلف، إلا أنه لا يرى فيه سوى “لعب أطفال” لما يعد لهذا الكون من “ألعاب شيطانية” كبرى كانت إحدى “محطاتها” كارثة 11 أيلول ولم تنته بالأزمة المالية العالمية و”خطر ارتفاع حرارة الكوكب”.. وبالطبع حادثة محاولة تفجير الطائرة الأميركية فوق ديترويت!
Leave a Reply