محمد العزير
لا يحتاج من يريد التعرف على مشاعر المؤمنين تجاه بعضهم البعض إلى كثير عناء. لمستان على لوحة مفاتيح الكمبيوتر أو شاشة الهاتف الذكي ويكون على موعد دائم مع التشويق والإثارة والانفعال، فكل ما يريده سيجده منشوراً بسخاء مفرط على صفحات التواصل الاجتماعي. وإذا كان «الفيسبوك» ميدان السجالات الأول، وكان «تويتر» الأنسب للهجمات الخاطفة، فإن للـ«يوتيوب» النصيب الأكبر من المعارك والمنازلات والمبارزات لأنه يوفر المنبر الأسهل بالصوت والصورة فلا يتطلب عناء الكتابة ولا يحد من استرسال أو استسهال الهائجين الناقمين والمطوعين. كل الاستثمار المطلوب، كاميرا ووقت ولا شيء محرّم.
وقبل أن يستعجل البعض إلقاء اللوم على التقنيات الحديثة والإنترنت وتحميلها مسؤولية أكبر خناقة في تاريخ اللغة العربية بفصحاها وعاميتها ولهجاتها، لا بد من التذكير بأن ما يتم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعي موجود أصلاً في النفوس ويغلي في الصدور ويتردد بلا وازع أو وجدان في بيوت الله وبيوت الناس والمدارس والجامعات وأماكن العمل والمقاهي والطرقات، بل لعل سياسة مواقع التواصل إزاء العنف والتشهير والتزوير تلجم بعض المتحمسين أحياناً خشية أن تتعرض حساباتهم للعقاب والتجميد أو الإلغاء فتراهم يقطّعون بعض الكلمات خطياً أو يغمغون بعض العبارات لفظياً حتى لا يتم التبليغ عنهم.
وقبل أن ينبري البعض لترداد أسطوانة «العناصر غير المنضبطة» أو عدم تمثيل المتعاركين لما يدّعون أو تهميشهم أو نسبتهم إلى رعونة الشباب وطيشه، لا بد من الإشارة إلى أن العراك الفتنوي لا يستثني أحداً، إلا من رحم ربي، وأن أدواته ليست هجينة أو مبتدعة أو حديثة، وإنما هي في صلب التراث الفقهي ومستمدة من مراجع معتمدة ومعتبرة، وإن كانت طريقة تعليبها أكثر إغاظة واستفزازاً، ثم إنها لا تجد ولا يبدو أنها تستدعي رداً أو صداً أو توضيحاً من «العقلاء» و«الأعيان» و«الحكماء» الذين في الأساس لم يعترضوا على كتب منشورة وصحف مطبوعة وقنوات وفضائيات، بل تراهم، في غالبيتهم، يستمطرون الحنق والاستياء لسقاية مساكب التعبئة والتنافر.
يجد المهتم بأحوال المؤمنين من أتباع الدين الحنيف ما لا يخطر في بال، من فوالق وخطوط تماس ومحاور تتجاوز المعروف من النزاعات والتصنيفات بأميال، ويندهش، إن لم يكن ملماً بتاريخ الأمة، من تنوع الخصومات والضغائن والحرتقات، ولا شك في أنه سينصدم من كمية الحقد المتبادل والخبث والتهكم وإهانة المقدسات وهتك المحرمات والإمعان في شتم الرموز بوقاحة مفرطة. وسيكتشف أن مستوى الكراهية والكيد يكفي لإيقاد حروب أهلية دامية ومستدامة لا رحمة فيها ولا ضوابط ولا محظورات، وأنه لو كانت المواقف المنبرية ترجمة حقيقية لمشاعر أصحابها لتحول كل واحد منهم إلى مشروع قاتل مستعد لإبادة «خصمه» وتقطيعه إرباً بالمفرق والجملة أو مشروع انتحاري مستعد لتفجير نفسه وسط الأعداء حتى لو كانوا، أو ربما خصوصاً إذا كانوا، في مكان عبادة أو مناسبة عامة، فـ«داعش» وأخواتها لم تأت من فراغ، والشماتة بالضحايا لم تعد عيباً ولا ضرورة لتهذيبها.
يظن الداخل إلى صفحات المؤمنين ومنصاتهم، إن لم يكن ملماً، أن الصحابة انفضوا للتو من سقيفة بني ساعدة، أو أن أبا بكر وعمر يسيجان أرض فدك، أو أن «الثوّار» مازالوا على سطح بيت عثمان بن عفان في المدينة، أو أن عائشة لا تزال على هودج جملها «عسكر» في البصرة، أو أن المصاحف لم ترفع بعد، في حرب صفين، أو أن رأس الحسين لا يزال مرفوعاً على رمح الشمر، أو أن الصحابي مسلم بن عقبة لم يكف أيدي جنود الخلافة عن استباحة المدينة المنورة، أو أن منجنيق يزيد لا يزال يدك الكعبة، أو أن الحجاج لا يزال يسوق أهل الكوفة بالعشرات إلى حتفهم، أو أن زيد بن علي لا يزال مصلوباً في الكوفة، أو أن جسد النفس الزكية لا يزال مضرجاً عند أحجار الزيت، أو أن الحجر الأسود لا يزال رهينة القرامطة في البحرين، أو أن أبو عبدالله الممهد يذبح على يد جنوده بأمر من عبيد الله المهدي في مدينة رقادة، أو أن صلاح الدين الأيوبي يتجه إلى حطين بعد إزالته الدولة الفاطمية في القاهرة، أو أن أبا رغال يتقدم جيش المغول إلى بغداد، أو أن طرطقة قبقاب شجرة الدر تدوي في أرجاء قصر المنصورة، أو أن الشاه إسماعيل يجلس على العرش الصفوي في تبريز ليصد التمدد العثماني، أو أن محمد علي يولم للمماليك في القلعة.
ويظن الداخل غير الملم عندما يقرأ ويستمع ويشاهد، أن مالكاً في سجال مع أبي حنيفة أو أن ابن حنبل يدبّر المكائد للشافعي، أو أن جعفر الصادق لم يحسم أمر وراثته بعد، أو أن واصل بن عطاء يجادل الحسن البصري أو أن العراك الألسني والكلامي محتدم بين النظّام والفوطي والزمخشري والجاحظ والقاضي عبدالجبار وبين أبي الحسن الأشعري وأتباعه البيهقي والباقلاني والجويني والغزالي والفخر الرازي والسيوطي وابن عساكر حول العقل والنقل، أو أن ابن تيمية مشغول بتلقين ابن القيم مبادئ التشدد والتزمت، أو أن الأمة لم تسمع بابن سينا والفارابي وابن رشد وابن عربي وجلال الدين الرومي وإخوان الصفا قديماً، ولا بإقبال ومحمد عبده والأفغاني حديثاً، أو بإيجاز كأن كل الأنظار وكل العيون وكل العقول لا يمكنها أن ترى إلا خلفها، فكلما رجعت في التاريخ كلما تحسّنت الحكاية وتعاظمت الأحداث.
وكما انخفضت أصوات العقل والحكمة أمام الاقتتال الظاهر والمستتر والظواهر المنحرفة والمخيفة على امتداد الأراضي الإسلامية المترامية من الباكستان إلى اليمن مروراً بأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان والسعودية والبحرين، وكما ابتلعت المرجعيات ألسنتها ودفنت لفّاتها تحت رمال التقية والمسايرة والمواربة والخوف واستنجدت بأحاديث ضعيفة أو فتاوى ملتبسة حتى لا تكفّر «داعش» وأخواتها وحتى لا ترفع غطاء «الملة» عمن يقتل ويرتكب الموبقات على الأرض، كذلك تتوارى عن مشهد الردح العلني والتقاذف بالدين والتنابذ بالألقاب والتلاعن والتشاتم، فليس هناك من يتدخل سواء بالنصيحة أو بالنهي، بل لا يتوانى البعض ممن يدعون صلة بكثير من المرجعيات عن الاستثمار في الضغائن والتجارة بالنكايات.
وقبل أن ينبري البعض للقول إن سجالات غير المسلمين فيما بينهم لا تقل حدة ولا اتساعاً، ينبغي النظر إلى حقيقة أن الحرب الدينية الداخلية المفتوحة على الأرض فعلاً، والتي ينتج عنها قتل وإصابات وتدمير وتهجير وخطف وأضرار، تقتصر الآن على أتباع الدين الحنيف، وأن سوابق اقتتال الكنيسة لا يعتد بها لأنها أولاً انتهت، وتالياً لأنه تم التعلم منها وأدت إلى فصل واضح وصريح بين الدين والدولة بينما لا يزال الخطاب الإسلامي بكافة تلاوينه مصراً على أن مشكلة الدولة تكمن في عدم تبنيها الكامل للدين.
لا تقتصر مشكلة هذا الخطاب على عدم صوابيته تاريخياً وحسب، بل تطرح مسألة أعم وأشمل، ألا وهي: أي دين يدعو إليه هذا الخطاب، إذا كانت المساكنة غير ممكنة بين الأشاعرة والسلفيين والمتصوفين –حتى لا نتطاول ونقول بين السنة والشيعة– وإذا كانت الهوامش في فرقه ومذاهبه مدعاة للخوف من الانفتاق والاقتتال في أية لحظة؟ (وهذا موضع بحث آخر).
Leave a Reply