محمد العزير
لا تبحثوا عن معجم ولا تلجأوا إلى «غوغل»، الإقماع ليست في عداد الكلمات العربية النظامية، بل هي دمج فوري لكلمتي الإقناع والقمع، أو بالأدق هي تعبير «ارتجالي» يفيد بمحاولة إقناع شخص ما بنظرية ما عن طريق القمع عن بعد. وعملاً بالقاعدة القائلة إن الحاجة أم الاختراع، اقتضت الضرورة اجتراح هذه الكلمة لوصف طيف كبير من الحضور المتفاعل «للمؤمنين» في وسائل التواصل الاجتماعي في سياق يهدف إلى تثبيت آراء متعلقة بالإسلام ونفي أخرى في همروجة فقهية–ألسنية–مذهبية تعكس بوضوح حجم الفوضى التي تدب في أوصال الدين الحنيف.
وسط المعمعة التي تناولها مقالي السابق تحت عنوان «مهاترات المؤمنين ومشاجراتهم»، وإلى جانب الاشتباك الهائل على خطوط التماس السياسية والفئوية المتصلة بالانقسامات الدينية، ثمة ميدان رديف لا يتعاطى السياسة بشكلها المباشر بل يركز على الجوانب المفترض أنها رسالية وفلسفية وعقيدية وفكرية، ويتراوح مداه من الخلق والتنزيل إلى العبادة والشعائر ومن الغيب والإيمان إلى التشكيك والإلحاد، وهذا في ذاته ليس غريباً بل هو مطلوب ومستحب إن لم يكن واجباً، أما الغريب فهو أن ما يفترض أن يكون بمثابة السفسطائية التي تحدت الفلسفة الإغريقية أيام أفلاطون وأغنتها تحول بهمّة عالية وحماسة مفرطة إلى ديماغوجية فظة تعتمد لغة تسلطية تخوينية متعالية يزيد منها اليقين الأعمى من جهة والتهكم والاستهزاء من الجهة الأخرى تهافتاً وسخافة وسرعان ما تتحول إلى مهاترات وشتائم.
عتبة الدخول إلى هذا المعترك منخفضة جداً، ومع أن الموضوع على قدر كبير من الأهمية والهيبة يتقاطر عليه المهتمون والمدّعون والمتنطحون من كل فجّ عميق فلا مواصفات ولا مؤهلات مطلوبة للمشاركة في طبخ هذه «الشوربة» الكلامية سوى القدرة على النطق، حتى يخال المتابع أن الناس تركت اشغالها واعمالها وتفرغت للدين، لذلك فكما تصعب الإحاطة بالفئة الأولى من المتهاترين في المذهب والولاء، تصعب الإحاطة بالمشتغلين بالعقيدة والعبادة، الّا أن ما يميزهم عن أقرانهم هو امكان تأطيرهم في خانات تلخص إلى حد كبير دوافعهم ومنطلقاتهم وأساليبهم، فضلاً عن تصنيفهم النوعي.
تجمع هذا الكم الكبير من الناس صفات مشتركة ابرزها النرجسية المفرطة التي تجعلهم يتجرأون على الله وعلى الأنبياء وعلى الأولياء وعلى الأئمة وعلى المقامات، ثم الانتقائية التي تهبط بالنقاش من المنهجية إلى الديماغوجية فتضيع المقاييس وتختلط المبادئ، ثم ازدواجية المعايير فما يحق لهم اعتباطاً لا يحق لغيرهم أبداً، ثم التسلط فالصحيح ما يصح لديهم فقط، ثم الإسفاف حيث يجمعون الكلام بناء على التشابه اللفظي فتتغير المعاني ويصبح الاستنباط شكلياً وهزيلاً إلى درجة مذهلة في ركاكته، ثم الاستفزاز حيث الأهم إغاظة المتلقي المفترض أنه من الخصوم، ثم التدليس حيث تتهرطق الحجج والأسانيد ويحل التضليل مكان التفسير، وأخيراً استمطار الرد، خصوصاً اذا كان شتيمة، فإذا رد أحد عليهم، ولاسيما إذا كان أسم هذا الـ«أحد» متداولاً إلى حد ما، ويا حبذا لو كان معروفاً، يولولون ويدبّون الصوت وينتحبون مستنكرين ومستغربين ويفردون صفحاتهم ومواقعهم لنشر الرد خطياً وشفهياً وكأنه يحقق لهم ذواتهم ويضفي على حضورهم الإفتراضي شرعية ضرورية لزيادة جمهورهم.
بشيء من التبسيط يمكن توزيع أكثرية المشتغلين بالدين على مجموعات ذات قواسم مشتركة في المنطلقات والأداء وإن كانت لا تتقاسم الانتماء أو الهدف؛ هناك الدعاة التقليديون الذين استسهلوا التواصل الاجتماعي لإيجاد منبر مضمون أو استبدال منابر المساجد وعنائها بمقعد مريح في البيت أو المكتب، واستبدال المؤمنين بالكاميرا والأسئلة المباشرة بالتعليقات. يعتمد جُلّ هؤلاء أسلوب التبشير الدعائي للتبليغ، يختارون من التراث كل مخيف للزجر وكل الشهوات للترغيب فينقلبون في هنيهات من جلادين دمويين متعطشين للبطش وهم يحدثون عن جهنم للكافرين، إلى وكلاء حصريين لإعلانات المتعة واللذة في جنة المؤمنين حيث حور العين الصغيرات العذراوات والغلمان بالآلاف ويضيفون إلى أنهار الخمر والعسل نهراً متدفقاً من المنشطات الجنسية حتى لا يحمل المؤمن في الدنيا هم القدرة على القيام بالواجب وعدم التقصير في الآخرة، ويستخدمون، بحجة أن الله لا يستحي، إيحاءات إباحية لا يمكن عدم تصنيفها للبالغين لو كانت في السينما أو على التلفزيون.
الصنف الآخر من الدعاة يحمل اسم القرآنيين وهم من لا يعترفون بغير كتاب الله مصدراً للتشريع والعقيدة والعبادة، يرفضون الأحاديث والسنة والسيرة النبوية وعلى منوال البروتستانت من المسيحيين يرفضون وجود وسطاء من البشر بين المؤمنين وبين الله، لكنهم في سعيهم إلى تنزيه الدين عما يرونه بدائية لا معقولة أو تلطيف النص الصريح فيما يرونه غير قابل للتبرير «الحداثي» يحاولون ليّ عنق اللغة وتهجين المنطق فلا تعود الكلمات تعني ما تعنيه ولا تعود المفردات تعبّر عن مضمونها، فالنساء مثلاً كلمة لا تعني جمع امرأة ولا أنثى البشر، ولا القتل يعني الفعل المؤدي إلى الموت ولا وجود للجنة أو النار إلا مجازياً ولا الزنا هو فعل جنسي ولا ملك اليمين عبودية وإنما عقد عمل بين شخصين حرّين ولا حظ الذكر مثل حظ الأنثيين ولا الأعمار بيد الله… ولا حول ولا قوة إلّا بالله. وعلى مسافة من هؤلاء هناك «الربوبيون» الذين لا يعترفون لا بكتاب ولا بزبور ولا بتلمود ولا بسنة.
وهناك الذين تركوا الدين إلى دين آخر أو إلى الإلحاد لكنهم لم يتركوا الدين وشأنه، لا يكتفون بممارسة ما اعتنقوا أو الدعوة إلى معتقدهم الجديد بل يصرّون على خوض معركة مع الدين القديم ويفتحون نار جدالهم على المؤمنين، ويباشرون ذلك من موقع العارف العازف ويستهلون كل مداخلة لهم بالتذكير أنهم مؤمنون سابقون يعرفون العقيدة والعبادة عن بكرة أبيها ولم تفتهم شاردة أو واردة من الإيمان الذي تخلوا عنه بعد استكماله ولا يملكون في جعبتهم أكثر من المتداول من الشكوك والشبهات والطعن، لكنهم يعتقدون ويتصرفون على أساس أنهم أكثر قدرة على نشر الغسيل الوسخ لديانتهم القديمة وأقل تأثراً بحجج أقرانهم السابقين باعتبار أنهم يعلمون السر وأخفى. يتألف قسم في هذه الخانة من قدامى المتمذهبين الذين أبقوا على الدين وتركوا المذهب، وهؤلاء الأكثر صخباً وجلبة بلا منازع باعتبار أنه في واقع الحال المذهب أهم من الدين.
ثمة شريحتان أخريان أقل وضوحاً في هذا الميدان؛ الأولى تجمع مؤمنين سابقين لا يعلنون تخلّيهم عن الدين صراحة، لأسباب أمنية أو شخصية أو لاستخدام حصّتهم كأسهمٍ تمنحهم حق النقاش كشركاء أو كسهام يدرأون بها الهجمات المرتدة وغالباً لا يوفرون من معاولهم تراثاً ولا حديثاً ولا تنزيلاً، والشريحة الثانية الأغزر مشاركة والأكثر احترافاً والأقل سجالاً تتكون من شخصيات وحسابات غير صريحة لا يظهر أصحابها وجوههم ولا يعرّفون بأنفسهم لكنهم يقدمون مادة مدروسة ويطرحون أموراً راهنة وحيوية ويظهّرون الخلافات المذهبية والفقهية القديمة والحديثة بأسلوب هادئ وأصوات سلسة، ومع أنهم لا يبتغون أهدافاً محددة إلّا أن تركيزهم على العقيدة والغيب يثير علامات استفهام لا جواب صريح عليها.
تُبذل جهود كثيرة وتتبدد إمكانات كبيرة ويهدر وقت طويل في هذه المعمعة الكيدية دون طائل. ثلاث بديهيات غير متجانسة تطرح نفسها إزاء ذلك؛ أولاها أن معظم المشاركين في هذا البازار يبحثون عن شهرة شخصية لا عن مصلحة عامة، وثانيها أنه لو خصص نصف هذا المجهود لمحو الأمية مثلاً لكانت النتيجة أرقى وأبقى، وهذه تقود إلى البديهية الثالثة وهي أنه لو أرادت المرجعيات الدينية والمذهبية التي يتحدث المتنطحون باسمها افتراضاً، أن تحد من ذلك لتدخلت وأفتت بعدم جوازه درءاً للفتنة التي طالما تحذر منها وتلعن من يوقظها، لكن لا مصلحة لتلك المرجعيات في خسارة عامل تعبئة مضمون مهما كان موبوءاً، ما دام أكثر من ثلث المجتمع أميّاً لا يجيد القراءة والكتابة ولا يحتاج إلا إلى التحريض لينتظم.
Leave a Reply