هل سيقدر الأخضر الإبراهيمي على النجاح حيث فشل كوفي أنان؟ أعتقد أنّ ذلك ممكن أن يحدث إذا كانت الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن جادّةً الآن فعلاً في البحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية الدموية الخطيرة، التي تهدّد أيضاً بحروبٍ أهلية وإقليمية في عموم المنطقة. وسيكون الفارق بين دور أنان ودور الإبراهيمي هو بين من جرى اختياره لضبط الخلافات بين الدول الكبرى حينما جرى اختيار أنان كمبعوث دولي، وبين من جرى تكليفه الآن، أي الأبراهيمي، ليكون ممثّلاً للإرادة المشتركة للدول الدائمة العضوية في البحث فعلاً عن تسوية سياسية للحرب الدائرة الآن في سوريا، وعلى سوريا.
الأخضر الإبراهيمي لم يقبل بالمهمّة الدولية الجديدة الموكلة إليه إلاّ بعد ضمان تأمين الدعم لمهمّته من الفاعلين الكبار في الأزمة السورية، وهذا يعني وجود قناعة دولية الآن بعدم إمكانية حسم الأمور عسكرياً على الأرض السورية لصالح هذا الطرف أو ذاك، ويعني أيضاً ارتفاع منسوب المخاوف من تفاعلاتٍ ممّا يحدث على الأرض، إن كان لجهة زيادة دور وعدد الجماعات الدينية المتطرّفة، والمحسوبة اسمياً على «جماعات القاعدة»، أو أيضاً لمحاذير امتداد الصراعات المسلّحة إلى دول مجاورة لسوريا.
أعتقد أنّ الأخضر الإبراهيمي سيعتمد كثيراً على إمكانات حدوث تفاهم سعودي – إيراني (مدعوم من إدارة أوباما ومن روسيا) حول المخرج المناسب لوقف العنف في سوريا، وبشكلٍ مشابه لدوره في وقف الحرب الأهلية اللبنانية منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث اعتمد آنذاك على صياغة تفاهم سعودي-سوري مدعوم من واشنطن أفرز «اتفاق الطائف» الخاص بالأزمة اللبنانية.
أوجه الاختلاف الآن عن الحالة اللبنانية، منذ عقدين من الزمن، أنّ مطلع عقد التسعينات كان بداية الانفرادية الأميركية في قيادة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبأنّ سوريا كانت «لاعباً» مهمّاً في المنطقة لا «ملعباً» للآخرين. الآن، يشهد العالم إصراراً روسيّاً-صينيّاً على صياغة نظام دولي جديد يقوم على الشراكة لا على التبعيّة للموقف الأميركي، نظام تعدّدية الأقطاب الذي سينهي حقبة القطب الأميركي الأوحد. وكيفيّة معالجة الأزمة السورية ستكون هي التي تصنع هذا التحوّل الدولي القادم.
أيضاً، أصبحت إيران هي «اللاعب» الإقليمي الذي تتمحور عليه وحوله قضايا عديدة في المنطقة تشمل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، إضافةً إلى مصير العلاقات مع دول الخليج العربي وتأثيراتها على أمن هذه الدول وعلى النفط والاقتصاد العالمي.
هذا ما يدركه كلّه طبعاً الأخضر الإبراهيمي، وما جعله يشترط ضمانات الدعم الدولي، وهو يحاول الآن بناء صيغة تسوية تدعمها إقليمياً السعودية وإيران، وتقف خلفها واشنطن وموسكو، لتكون مدخلاً أيضاً لتفاهماتٍ دولية وإقليمية تشترك فيها الصين وتركيا ومصر والدول الأوروبية الفاعلة، حول قضايا إقليمية عديدة لها علاقة بمستقبل النفوذين الأميركي والإيراني في العراق، وبمصير التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي وامتداداته في لبنان وفلسطين، إذ من الصعب التوصّل إلى حلٍّ للأزمة السورية دون حدوث تفاهمٍ دولي أيضاً على مستقبل تسوية الصراع السوري-اللبناني-الفلسطيني مع إسرائيل. وإيران معنيّةٌ بكلِّ ذلك.
كانت المراهنات الأميركية والأوروبية في السابق هي على إضعاف إيران من خلال استقطاب دمشق ومغازلتها، وعزل المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وتشجيع الخلافات العربية–الإيرانية عموماً مقابل تشجيع التقارب العربي–التركي، في ظلّ مناخاتٍ طائفية ومذهبية تخدم هذه التوجّهات «الأطلسية» في المنطقة. لكن هذه المراهنات سقطت مع سقوط حكم بن علي في تونس ثمّ حكم مبارك في مصر ثمّ القذافي في ليبيا حيث تحوّلت المراهنات إلى توظيف الانتفاضة الشعبية السورية لصالح أجندة دولية وإقليمية لا علاقة لها إطلاقاً بالمسألة الديمقراطية أو بحقوق الشعب السوري ومطالبه المشروعة.
وما زالت السياسة«»الأطلسية» ترى أنّ إضعاف إيران ممكنٌ الآن من خلال المراهنة على نتائج «الربيع العربي» وما يفرزه هذا «الربيع» في بعض البلدان من وصول جماعاتٍ سياسية دينية متباينة مع إيران وبعيدة عن سياساتها، وأيضاً، من تفاعلات الحدث السوري لإضعاف حلفاء إيران في المنطقة.
إنّ كلّ تلك المراهنات الأطلسية هي محكومةٌ بظروفٍ إقليمية ودولية، وبوقائع عسكرية على الأرض السورية، وبمخاطر امتداد النيران الى دول الجوار. فتركيا (العضو في حلف الأطلسي) ترفض حتّى الآن أن تكون «كبش محرقة»، ولم تتجاوب مع دعوات التصعيد العسكري المباشر ضدَّ سوريا أو إيران. ومعظم الدول العربية تدرك حجم المخاطر المحيطة بالمنطقة، ولا يريد التورّط في حروبٍ إقليمية أو في مشاريع فتن «أطلسية» أو إسرائيلية. كذلك، وهذا مهمٌّ جداً، هناك إدراك روسي-صيني لأبعاد ما يحدث في سورية وحيال إيران، وللانعكاسات الخطيرة على مصالح موسكو، وبكين، ومستقبل العلاقات الدولية عموماً، في حال السماح بتكرار ما حدث في ليبيا من تدخّلٍ عسكري أجنبي لتغيير النظام الحاكم.
ورغم الضغوط الكثيرة التي تبذلها حكومة نتنياهو لإشعال حربٍ مع إيران، فإنّ إدارة أوباما، وخلفها حكومات «حلف الناتو»، لا تجد الآن أمامها إلاّ خيار البحث عن تسوية سياسية للملفّين الإيراني والسوري. فمصير العلاقة الأميركية-الأوروبية مع روسيا والصين يتوقّف الآن على كيفيّة التعامل مع هذين الملفين في الشرق الأوسط، كما هو أيضاً مصير الأمن والإقتصاد في العالم كلّه.
***
مهمّة الأخضر الإبراهيمي هي الآن بصيص نورٍ خافت في نفقٍ عربيٍّ مظلم، وستكون هذه المهمّة الصعبة في حال نجاحها بدايةً لتسوياتٍ إقليمية عديدة في المنطقة، ولاجماً كبيراً لأفكار وممارسات تفتيتيّة لشعوب ودول المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لكن البديل عنها، في حال فشلها، هو مزيدٌ من الدّم والدّمار، ومن اتّساع رقعة الصراعات، ومن استنزاف للثروات العربية، ومن تهجير لمزيدٍ من مئات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء الذين هم الآن ضحايا لسوء أوضاع أوطانهم ولصراعات القوى الإقليمة والدولية على هذه الأوطان ومواقعها وثرواتها.
إنّ الديمقراطية السليمة، القائمة على وحدةٍ وطنية شعبية، وعلى ترسيخ الولاء الوطني، وعلى الهويّة العربية، وعلى التمسّك بوحدة الكيان الوطني، وعلى «رفض العنف والطائفية والتدخّل الأجنبي»، هي البديل المطلوب للحالة العربية الفاسدة والعفنة، ولا يجوز أن تكون الصراعات الأهلية والتقسيمات الجغرافية والتدويل الأجنبي هي البديل. إنّ أبرز ما يعيق التحوّل نحو الديمقراطية السليمة هو أنّ المجتمعات العربية موبوءة بأمراض التحزّب الطائفي والمذهبي والإثني، وهذه الأمراض وحدها تشكّل الآن خطراً على الحراك الشعبي العربي الكبير، فكيف سيكون المستقبل، إذا ما أُضيف إلى ذلك أيضاً، خطر مشاريع الفتنة والتقسيم والتدويل لعموم بلدان المنطقة؟!
Leave a Reply