يقدم هذا الكتاب موجزاً عن فكر التنوير الأوروبي من خلال استعراض أفكار الفلاسفة والمفكرين الذين ساهموا في إرساء هذا الفكر، ويعتبر التنوير سيرورة وسياقاً عاماً، وليس مجرد مذهب أو فلسفة، فلسفة الأنوار مثلاً، ولا يتحدد التنوير بمرحلة تاريخية عاشتها الإنسانية وانقضت، قرن الأنوار مثلاً، لتليها مرحلة الحداثة ثم مرحلة ما بعد الحداثة.
ويرى المؤلف أن الرؤية الفكرية الحديثة القائمة على أساس فكر التنوير وقيمه هي التي ستتحول إلى قاعدة التأسيس للفكر الأوروبي الحديث والمعاصر. إذ في هذه الفترة سيغادر الوعي الأوروبي، وبمعنى من المعاني، دائرة الأزمنة التاريخية الطاحنة والحادة، وينخرط في مشروع التأسيس لحداثته. والتنوير ليس هو، وحسب، مقدمة الحداثة.
بل إنه هو أسّها ولبها وزمنها المشرع وأفقها المفتوح دوماً، فمن جهة، فإن العقل الأوروبي المنعوت تحديداً بالعقل الحديث أو الحداثي إنما هو كذلك باعتباره تأسس على قيم العقل والحرية والتقدم التي تعرف بقيم التنوير بامتياز، واستوعبها وبمعنى من المعاني حتى أصبحت هي روحه حسبما ذكر هيغل في كتابه فنومنولوجيا الروح.
وبالعودة إلى البدايات نجد أن الشاعر الفرنسي بودلير، أول من استخدم كلمة الحداثة، ونظر لها على الصعيد الفني (الشعر والفن)، واعتبر أن الحداثة هي الانتقالي، العابر، الجائر، وتشكل نصف الفن الذي يشكل نصفه الآخر الأزلي اللا متغير. وعليه فإن الحداثة ولدت -بالمفهوم البودليري- من تقاطع الزمن الراهن مع الأزل، راهن يتلاشى، ويمتد على عدة عقود خلت، ويتشكل في قلب الأزمنة الحديثة، لكن أيمكن للزمن الراهن ألاّ يتشكل إلاّ من تقاطع الراهن مع الأزل؟.
وكان بودلير يتحدث عن جوهر الفن الأزلي السرمدي للحداثة، وقدم صورة نظرية للحداثة، يكسوها الانبهار بأضواء المدينة، وبإرهاصات الشاعر المتسكع في شوارعها المليئة بالحياة، لذلك صور البولفار (الشارع العريض) كمرآة للحداثة، وقد سحره على الدوام ذلك الجمال العابر، المتلاشي للحياة الحديثة، وعنت الحداثة له، تدمير كافة الأشكال الجامدة المتحجرة التي تقف في وجه الفن والشعر.
ويرفض المؤلف فكرة انحسار فكر التنوير في دائرة خصوصية ثقافية وجغرافية بل وعرقية مزعومة. فالبعد الفلسفي الأصيل لمفاهيم العقل والحرية والتقدم، بوصفها تشكل مضمون فكر التنوير وتؤسس بناءه الذهني وتخترق نسيجه المعرفي، يضعنا إزاء نوع من محاولة التأسيس لما يمكن دعوته بـالخطاب الفلسفي للتنوير.
ولا يمكن اختزال فكر القرن الثامن عشر، أي فكر التنوير، في مجرد نصوص تحريضية وشعارات ثورية قادت رأساً وأساساً نحو اندلاع الثورة الفرنسية في 1789، أو في أحسن الأحوال اعتباره اختزالاً لفلسفة نفعية، إنكليزية أو أنكلو-سكسونية في العموم، ولكنه، أي فكر التنوير، يمثل ما هو أعم وأشمل وأعمق، وهو المشترك الحضاري الإنساني العام من داخل التعدد الثقافي الخاص. فالثقافة قديمة قدم الاجتماع الإنساني. وبهذا المعنى فهي تفيد ما به تأسس ويتأسس الاجتماع الإنساني نفسه.
ويؤشر البعد الإنساني العميق والشمولي لفكر التنوير على أن الحداثة ليست مجرد تحقيق لـروح رأسمالية أوروبية مزعومة بنفس درجة أن الرأسمالية ليست تحقيقاً لأخلاق بروتستانتية معينة، حسبما زعم ماكس فيبر، ولكنها، أي الحداثة، نقطة انصهار لمثال النهضة وأخلاقيات الإصلاح الديني وقيم العقلانية والتجريبية بنفس درجة أن النهضة والإصلاح الديني والعقلانية والتجريبية قد فعلت فيها فعلها مؤثرات ثقافية غير أوروبية مثل فلسفة «ابن رشد»، وبالتالي، فالحداثة في مضمونها التنويري الدقيق والعميق هي معطى إنساني شامل شمولية مفاهيم الحرية والعقل والتقدم التي هي مضمون فكر التنوير بامتياز.
ومن جهة أخرى، فإن الحداثة ليست نوع من السرد الكبير، على حد تعبير أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة وهو الفيلسوف ليوتار.
وحسب أطروحة هابرماس التي تعتبر الحداثة مشروعاً لم يكتمل بعد، فإن الحداثة تعرف كمشروع فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي انخرطت فيه المجتمعات الأوروبية تحديداً انطلاقاً من القرن الخامس عشر، خلال عصر النهضة أو الرنيسانس، والقرن السادس عشر، قرن الإصلاح الديني، والقرن السابع عشر، قرن العقلانية والتجريبية والكشوفات والنظريات العلمية الحاسمة، والقرن الثامن عشر، قرن فلسفة الأنوار.
والقرن التاسع عشر الذي ينعته عادة مؤرخو الفكر بقرن تبلور الحداثة اصطلاحاً ومفهوماً ومضموناً، بعد صدور كتاب فينومنولوجيا الروح للفيلسوف الأماني هيغل؛ وتأصيل الحساسية الفنية الجديدة مع الشاعر الفرنسي بودلير. وعليه يلزم طرح السؤال التالي بصدوده: ما هي علاقة التنوير بالحداثة؟ هل التنوير هو مجرد مرحلة من مراحل الحداثة تم تجاوزها إلى مرحلة أرقى هي مرحلة الحداثة ذاتها ثم مرحلة ما بعد الحداثة؟
إن التنوير ليس مجرد مرحلة في مسار تحديث العقل الأوروبي خاصة والفكر الإنساني عامة، إلى حد اختزاله، مثلاً، في مجرد فلسفة الأنوار الموسوم بها القرن الثامن عشر في فرنسا. ففلسفة الأنوار التي قدمها فولتير، وديدرو، وروسو، ليست إلا أحد تجليات فكر التنوير الذي سطعت شمسه على مجتمعات أوروبا الرائدة كالتنوير في هولندا، والتنوير الإنكليزي، والتنوير الألماني، وبالتالي، يجوز تماماً الحديث عن مجالات متنوعة لتبلور فكر التنوير، وليس عن تنوير وحيد وواحد نماهيه ونطابقه بهذه الحقبة المحددة من تاريخ أوروبا خاصة وتاريخ الإنسانية عامة. فالتنوير لم ينته بحلول زمن الحداثة، حسبما يذهب بعض مؤرخي الفكر إلى حد إقرار تواريخ زمنية محددة في هذا الصدد!، بل إن أفكار التنوير الأساسية، ممثلة في الحرية والعقلانية والتقدم، استمرت مكونة ما يمكن اعتباره قاعدة الفكر الأوروبي الحديث وبنيته الأساس.
وقد ثار نقاش حاد وصاخب وعنيف منذ نهاية القرن الثامن عشر، وعلى امتداد القرن التاسع عشر، ولاحقاً. وكان محور هذا النقاش -تحديداً- أفكار الحرية والعقلانية والتقدم. وكان حامل مطرقة الهدم في هذا الصدد -بامتياز- الفيلسوف نيتشه قبل أن يتسلمه منه -باقتدار- هيدغر صاحب كتاب «الوجود والزمن». وساعدت ظروف العالم السياسية والاقتصادية الرهيبة، كالاستعمار، وفظائع الفاشية والنازية في تثبيت نظرة عدمية شاعت وهيمنت تحت مسميات شتى أبرزها بعض فلسفات ما بعد الحداثة المعادية لفكر التنوير الأصلي جهاراً.
وقد واجهت الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين نقداً واسعاً، وجاء هذا النقد من قبل فلاسفة اعتبروا أن الحداثة قد انتهت وولى عهدها إلى غير رجعة، منهم الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوتار، وكذلك جاك ديريدا، وميشيل فوكو، ونظر هؤلاء الفلاسفة لاتجاه عرف باسم ما بعد الحداثة. بينما انتقد فلاسفة آخرون الحداثة من الداخل، وخير من يمثل هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس.
Leave a Reply