صبحي غندور
خلال حقبة الحرب الباردة، كانت ألمانيا الشرقية تلعب دوراً أمنياً كبيراً وسط الجماعات والمنظمات الشيوعية الدولية التي تقصد موسكو من أجل الحصول على دعمٍ وتدريباتٍ وتوجيهات. وكانت موسكو ترسل هذه الجماعات إلى برلين من أجل تنسيق العلاقات الاستخباراتية وتدريب الكوادر وتوجيهها. وعقب سقوط الاتحاد السوفـييتي وانهيار النظام الشيوعي فـي ألمانيا الشرقية، تبيَّن أنَّ رئيس الاستخبارات فـيها واسمه( ماركوس وولف) كان عميلاً مزدوجاً مع إسرائيل وهو الذي كان يشرف على تدريب وتوجيه كوادر فـي منظماتٍ عربية شيوعية قام بعضها بعمليات خطف طائراتٍ مدنية وتفجيراتٍ حدثت فـي مدنٍ أوروبية!.
فماذا يمنع أن تكون المخابرات الإسرائيلية قد جنَّدت أيضاً مجموعة من العملاء المزدوجين (مثل حالة ماركوس وولف) من الشيشان وصولاً إلى نيجيريا، مروراً بمعظم الدول العربية، لتولّي قيادة منظمات تحمل أسماء «إسلامية»، تماشياً مع مرحلة ما بعد «الحرب الباردة» ولخدمة الصراع الجديد المصطنع بين الغرب و«العدو الإسلامي»؟!.
يكفـي أن نستعيد تاريخ الممارسات الإسرائيلية خلال الستين سنة الماضية، ومن ضمنها ما حاوله عملاء إسرائيليون فـي عقد الخمسينات بالقاهرة من تفجير مؤسساتٍ أميركية وبريطانية من أجل تأزيم العلاقات مع مصر عبد الناصر، وهي العملية المعروفة باسم «فضيحة نافون» فـي العام 1954.
ثمّ هل يجوز تناسي ظاهرة كوهين العميل الإسرائيلي الذي استطاع الوصول إلى مواقع رسمية سوريّة مسؤولة فـي مطلع الستينات من القرن الماضي؟. وهل ينسى اللبنانيون والفلسطينيون الأعداد الكبيرة من العملاء الإسرائيليين الذين خرجوا للعلن مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وكذلك ما كشفته السلطات المصرية عدّة مرات عن شبكات تجسّس إسرائيلية، وما زال بعض عناصر هذه الشبكات معتقلاً، رغم وجود علاقات طبيعيّة بين إسرائيل ومصر. فإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية فـي دول كبرى ومنها الحليف الأكبر لها أميركا، فلِمَ لا تفعل ذلك مع أعدائها المحيطين بها؟ إذ رغم كلّ العلاقات الخاصّة يين أميركا وإسرائيل، فإنّ واشنطن ترفض الإفراج عن جيمس بولارد، الأميركي اليهودي الذي يقضي منذ العام 1986 عقوبة السجن بتهمة التجسّس لإسرائيل، وقد انضمّ إليه مؤخّراً عملاء جدد كانوا يعملون لصالح إسرائيل فـي مواقع أمنية أميركية، ومن خلال علاقتهم مع منظمة «الإيباك»، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.
نعم، هناك عرب ومسلمون يقومون الآن بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت رايات «ديمقراطية» أو «إسلاميّة»، وعمليّاً يحقّقون ما يندرج فـي خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة من تقسيم طائفـي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة. أليس مشروعاً إسرائيلياً تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلات متناحرة؟ أما هي بمصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى ويجري فـي العراق وسوريا من سعي لهدم وحدة الأوطان والشعوب؟!، وما حدث قبل ذلك فـي الحرب الأهلية اللبنانية وفـي الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ثمّ الحرب الأهلية فـي السودان التي انتهت بفصل جنوبه عن شماله، ثمّ ما حدث ويحدث الآن فـي بلدان عربية أخرى؟!
إنّ هذا «الوباء الإسرائيلي» التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها فـي العالم كلّه.
فـي شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة «اتجاهات -كيفونيم» التي تصدر فـي القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان «إستراتيجية لإسرائيل فـي الثمانينات»، وجاء فـيها: «إنّ العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية فـي العشرينات (…) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفـيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها، وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفـي». ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلدٍ عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفـية وعرقية.
وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل فـي ثمانينات القرن العشرين، والذي يتّصل مع خطّتها السابقة فـي عقد الخمسينات التي كشفتها الرسائل المتبادلة بين بن غوريون وموشي شاريت، جرى بدء تنفـيذه من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982، ثمّ إشعال الصراعات الطائفـية خلال فترة الاحتلال وفـي أكثر من منطقة لبنانية.
***
وما سبق عرضه عن المخطّطات الصهيونية، لا يعني أننا – كعرب- ننفّذ ما يريده الصهاينة أو أنّنا جميعاً أدوات وعملاء لإسرائيل! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخططات الصهيونية والأجنبية الشاملة. لكن يبقى السؤال الهام: هل يجوز أن تكون شعوب الأوطان العربية مطيّةً لتنفـيذ هذه المشاريع الصهيونية؟
فمن المهمّ التوقّف عند ما حدث ويحدث فـي المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت شعارات إسلامية، وما هو يتحقّق من مصلحة إسرائيلية كانت أولاً، فـي مطلع عقد التسعينات، بإثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفـي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، ثمّ فـيما نجده الآن من انقسامٍ حاد فـي المجتمعات العربية وصراعاتٍ أهلية ذات لون طائفـي ومذهبي وإثني. فلم تكن بصدفةٍ سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين فـي العالم كلّه – وليس بالغرب وحده – بالإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت فـي التسعينات، مع خروج أبواق التعبئة الطائفـية والمذهبية والعرقية فـي كلّ البلاد العربية!!.
ذلك كلّه يحصل فـي غياب المفاهيم الصحيحة للمقاصد الدينية ولاختلاف الاجتهادات فـي الإسلام، حيث أصبح سهلاً استخدام الدين لتبرير العنف المسلّح ضدَّ الأبرياء والمدنيين، وأيضاً لإشعال الفتن المذهبية والطائفـية. وسوء كلا الأمرين يكمّل بعضه بعضاً.
تساؤلات عديدة ما زالت بلا إجاباتٍ واضحة تتعلّق بنشأة جماعة «داعش» وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف!. ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت بداية التسمية: «الدولة الإسلامية فـي العراق والشام» بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم «بلاد الشام»؟! أليس ملفتاً للانتباه أنّ العراق ودول «بلاد الشام» هي التي تقوم على تنوع طائفـي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعةٍ عربية أو إسلامية أخرى فـي العالم؟! ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة لـ«دولة إسرائيل» التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كـ«دولة يهودية»؟! ثمّ أيضاً، أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلات طائفـية وإثنية فتكون إسرائيل «الدولة الدينية اليهودية» هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!. وأيُّ مصيرٍ سيكون للقدس وللشعب الفلسطيني ولمطلب دولته المستقلّة ولقضية ملايين اللاجئين الفلسطينيين بعد نشوب الحروب الأهلية العربية والإسلامية ونشوء «الدويلات» الدينية والإثنية المتصارعة؟!.
إنّ «داعش» و«النصرة» الآن، ومعهما وقبلهما «القاعدة» وجماعات عديدة أخرى، استطاعوا استقطاب أجيال شابّة فـي عدة دول عربية وإسلامية وغربية بسبب غياب فعالية الفكر الديني السليم، الذي يُحرّم أصلاً ما تقوم به هذه الجماعات من أساليب قتل بشعة وجرائم إنسانية بحقّ كل من يختلف معها. إنّ تنظيم «داعش» ينتعش ويستفـيد حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّه شكلاً ويدعمون ضمناً – ولو عن غير قصد – مبرّرات وجوده حينما يتّجهون بحديثهم إلى «عدوّهم» الآخر، وهو هنا قد يكون من طائفة أخرى أو مذهب آخر أو من دولة أخرى. فكثيرٌ ممّن يظهرون الآن على الفضائيات العربية يبدأون حديثهم ضدّ «داعش»، لكنّهم فوراً ينتقلون إلى الحديث عن «الحالة الطائفـية والمذهبية»، وعن وجود «الخطر الآخر» فـي داخل الوطن أو من دولة مجاورة، ممّا يساهم فـي إعطاء الأعذار لوجود «داعش» ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براء من فكر هذه الجماعات وأساليبها. فالمواجهة مع جماعات «التطرّف العنفـي» تحتاج الآن إلى وقف كل الصراعات والخلافات داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وإلى تحقيق أقصى درجات التوافق الوطني والديني.
Leave a Reply