جولة بعد أخرى، تفرض مفاوضات أستانا نفسها، على الساحة الشرق أوسطية، بوصفها أكثر المسارات جدّية، في مقاربتها السياسية والميدانية للأزمة السورية، لتصبح بذلك كل المسارات الأخرى، سواء في جنيف، أو في أماكن أخرى مجرّد عنصر ثانوي في الجهود الدبلوماسية التي تتجاوز تأثيراتها الصراع السوري، لتتصل بالملفات اﻹقليمية الأكثر اتساعاً، وبشكل العلاقات المستقبلية بين روسيا والولايات المتحدة.
المايسترو!
المثير للانتباه، هو أن المايسترو الروسي لمسار أستانا يكتسب في كل مرّة يلتقي خلالها ممثلو الحكومة السورية ومعارضيها، جرعة نفوذ إضافية تتقاطع فيها الجهود الدبلوماسية المرتبطة بالأزمة السورية، والتي باتت تحتل الأولوية المطلقة على جدول أعمال الدبلوماسية الروسية، مع المتغيرات العسكرية التي فرضها التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ نهاية العام 2015.
والمثير للاهتمام أكثر، أنّ هذه الجهود الدبلوماسية –ومعها التحرّكات العسكرية الدراماتيكية في الميدان السوري– تسير بإيقاع ثابت وسريع في آن واحد بما يجعل التحرّكات الأخرى سواء من قبل الولايات المتحدة، أو من جانب تركيا وإيران –شريكتي روسيا في رعاية مسار أستانا– تفتقد إلى هامش المناورة الذي يجعلها قادرة على التأثير في الحل، أو حتى التصعيد، ما يجعل الكل على قناعة بأن أوراق اللعبة كلها –أو بمعظمها– باتت في درج الرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين.
هذا ما يفسر، بطبيعة الحال، كيف أن الكل بات مسلّماً بضرورة تعزيز التفاهمات مع الجانب الروسي للخروج بأفضل المكتسبات السياسية، لاسيما بعد خروج النظام السوري من دائرة الخطر واستعادته السيطرة على مناطق شاسعة في البلاد، أو ربما محاولة الاستلحاق بالحل الروسي، أيّاً كانت ظروفه وأشكاله، عبر تحرّكات سياسية وعسكرية، من شأنها أن تؤثر على مسار قطار الحل الذي يقوده الكرملين بسرعة وحذر في آن واحد.
إيقاع روسي
هذا الواقع الروسي الجديد في الشرق الأوسط لم يعد خافياً، حتى في التصريحات الصادرة عن أكثر السياسيين قدرة على تنميق الموقف السياسي بعبارات الدبلوماسية الناعمة، وقد أصبح معظمها مقرّاً بأن روسيا باتت قادرة على فرض شروطها، وأن على الجهات الأخرى التكيف مع هذا المتغيّر في السياسات الإقليمية والدولية.
لهذا السبب، تكتسب التحركات السياسية والعسكرية في الميدان السوري حساسية كبرى مع دخول مسار أستانا جولته السادسة التي تتصدّرها مسألة ترسيم حدود منطقة تخفيف التوتر في محافظة إدلب السورية، وفق قواعد اشتباك محدّدة فرضت روسيا منطلقاتها منذ البداية من خلال شرط أساسي، شكل محوراً لكل الاتصالات السياسية التي جرت منذ بدء «عاصفة السوخوي»، وهو ضرورة تحديد الضوابط التي تميّز بين المعارضة المسلحة وبين الجماعات الإرهابية.
عقدة إدلب
وتواجه عملية ترسيم حدود منطقة تخفيف التوتر العسكري المزمع إنشاؤها في منطقة إدلب صعوبات متعددة، فالخلافات ما زالت مستمرة بشأن مسألة مراقبة هذه الرقعة الجغرافية، وبالتالي فإن حسم تلك المسألة قد يستدعي إرادة سياسية على غرار ما حدث مع المنطقة الجنوبية التي تم الاتفاق حولها بعد اللقاء الأخير الذي جمع فلاديمير بوتين بدونالد ترامب في هامبورغ الألمانية في السابع من تموز الماضي، والذي أسفر عن تشكيل مركز مراقبة روسي–أميركي–أردني مشترك بدأ نشاطه في 23 آب (أغسطس) الماضي، متخذاً من عمّان مقرّاً له.
وبرغم ما سبق، إلا أن الجانب الروسي يبدو أكثر ثقة في إمكانية التوصل إلى تفاهمات جديدة في إدلب بالتوافق مع تركيا، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حين أشار إلى أنّ ثمة اتصالات جارية بين الدول الضامنة لعملية أستانا بشأن محافظة إدلب وحققت الأطراف فيها تقدماً ملحوظاً في تنسيق معايير تحييد المنطقة عن العمليات العسكرية وسبل ضمان الأمن فيها.
وسيسبق تحديد منطقة تخفيف التوتر حل مشكلة تبادل الأسرى بين طرفي النزاع، وإزالة الألغام من مواقع أثرية، فضلاً عن معالجة القضايا الإنسانية، لجهة تفعيل جهود المنظمات الإغاثية، التي تحظى بمصداقية، لإيصال مساعدات إنسانية.
والواضح أن الاندفاعة الروسية في الميدان الدبلوماسي، تزداد زخماً وثقة في ظل تحوّلات مثيرة للاهتمام في الميدان العسكري، ويمكن تحديد ملامحها من خلال العرض الأخير الذي قدّمه رئيس الأركان في الجيش الروسي الجنرال ألكسندر لابين، بشأن ما حققته الحملة العسكرية الروسية في سوريا من نتائج دراماتيكية، أهمها استعادة الجيش السوري السيطرة على 85 بالمئة من أراضي البلاد، وانحسار رقعة سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي إلى نحو 28 ألف كيلومتر تتوزع بين المعقل الأخير في محافظة الرقة والمناطق الصحراوية في البادية السورية وتحديداً في دير الزور، إضافة إلى بعض الجيوب المتفرقة في محافظات درعا ودمشق.
ملامسة الخطوط الحُمر
ولكن التحرّكات العسكرية الأخيرة، من قبل الجيش السوري وحلفائه، بغطاء من الطيران الروسي بدأت تكتسب في الآونة الأخيرة بعداً يتجاوز في أهميته المساحة الجغرافية المستعادة على امتداد سوريا، والمقصود بذلك تحديداً ملامسة جبهات القتال للخطوط الحُمر التي كانت مرسومة في السابق، سواء تعلق الأمر بالمناطق الحدودية مع العراق والأردن ولبنان وصولاً إلى خط نهر الفرات الذي قد يتحول إلى منطقة اشتباك مع تقدم الأكراد و«قوات سوريا الديمقراطية» باتجاه الأطراف الشمالية لمدينة دير الزور التي وصلها الجيش السوري وفك الحصار عن قواته المدافعة عن جزئها الغربي منذ سقوط المنطقة الشرقية من البلاد بقبضة تنظيم «داعش» عام ٤١٠٢.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم الأسباب الحقيقية التي دفعت بالولايات المتحدة إلى الدخول مجدداً على خط المعارك الميدانية عبر حلفائها الأكراد، وذلك بعدما بدا وكأنها سلّمت بالأمر الواقع الذي فرضه الروس في الآونة الأخيرة.
مزاحمة!
ولا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن عودة الولايات المتحدة الى محاولاتها تغيير أو تعديل قواعد اللعبة في سوريا، يأتي بعدما نجحت الضغوط الخارجية في نزع صاعق كاد يفجر الشرق الأوسط مجدداً، خلال الشهر الحالي، والمقصود بذلك قرار مسعود البرزاني تنظيم الاستفتاء على استقلال اقليم كردستان العراق، والذي جرى تأجيله إلى أمد غير محدّد.
ومن الواضح أن هذ التطوّر العراقي يدفع الولايات المتحدة إلى التركيز أكثر على الجبهة السورية، من البوابة الكردية نفسها، ولكن هذه المرّة عبر ما يسمى بـ«قوات سوريا الديمقراطية»، التي سرعان ما استدارت عن معركة الرقة – التي طال أمدها – نحو مزاحمة الجيش السوري في دير الزور، مباشرة بعد نجاح الأخير في فك الحصار الداعشي لها منذ ثلاث السنوات.
على هذا الأساس، أعلن مجلس دير الزور العسكري المنضوي تحت جناح «قوات سوريا الديمقراطية»، عن بدء حملة «عاصفة الجزيرة» لتحرير شرق الفرات والريف الشرقي لدير الزور من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي.
ويشي ذلك أن ما تحاول الولايات المتحدة القيام به هو مزاحمة الجيش السوري في السيطرة على الشريط الحدودي مع العراق، من خلال الأكراد، بعدما فشلت في منعه من التقدم باتجاه هذه المنطقة الحساسة نتيجة لانتصارات الجيش السوري المتسارعة والتفاهمات القائمة مع الجانب الروسي. وقد يبدو تحرك «قسد» محاولة جديدة من الطرف الأميركي لقطع طريق طهران–بغداد–دمشق–بيروت.
ولا شك في أن السباق نحو الحدود العراقية سيتحدد عبر من يسيطر على دير الزور، علاوة على أن الطرف الفائز سيحقق مكاسب استراتيجية ملموسة.
فهذا الصراع الميداني يندرج أيضاً –بطبيعة الحال– في إطار التنافس الجيوسياسي بين روسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولذلك فإنّ ثمة من يخشى أن يتفاقم السباق إلى دير الزور إلى صراع عسكري واسع بالوكالة بين الأميركيين والروس.
تلك المخاوف أججها تصريح لنائب قائد قوات «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة الجنرال روبرت جونز الذي قال إن الجانب الأميركي لن يسمح للجيش السوري بعبور نهر الفرات في دير الزور، لا بل هدد بتدمير أية وحدات عسكرية سورية تحاول تحقيق هذا الخرق.
ولكن الأمر قد لا يكون بتلك البساطة التي تحدث عنها الجنرال الأميركي، فالباب ما زال مفتوحاً امام تفاهمات جديدة مع روسيا على نحو مشابه لتفاهمات المنطقة الجنوبية، خصوصاً في ظل رغبة الرئيس دونالد ترامب بالقضاء على «داعش» وتحقيق الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأقل خسائر ممكنة.
وما يؤكد ذلك أن تصريحات الجنرال الأميركي لم تقابل بموقف رسمي مؤيّد من قبل البيت الأبيض الذي بات يفضل التريث في الكشف عن نواياه تجاه روسيا، لضرورات مرتبطة بأكثر من ملف استراتيجي حساس حول العالم.
على هذا الأساس، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة وخلفها إسرائيل تسعى إلى استغلال الورقة الكردية في مواجهة الأمر الواقع الروسي الجديد، على نحو غير مباشر، لتحسن موقعها التفاوضي.
وتنطلق الولايات المتحدة في توجهها هذا من خطة واضحة المعالم، وتقوم على فكرة تسهيل دخول الأكراد إلى الجزء الأكبر من دير الزور قبل وصول الجيش السوري، ما يعني استيلاءها على تلك المنطقة الغنية بالنفط والغاز في البلاد، من دون أن تضطر للدخول في مواجهة عسكرية –أو حتى دبلوماسية– عنيفة مع روسيا.
دير الزور… كركوك سوريا؟
ولكن الأمر لن يكون بتلك السهولة، فاستخدام الورقة الكردية دونه عقبات عدّة، الجزء الأساسي منها متصل بتركيا.
وللتوضيح، فإن سيطرة الأكراد على دير الزور سيؤمن لهم مقومات اقتصادية وحيثية جغرافية للحكم الذاتي في مناطق سيطرتهم بسوريا، تماماً كما جرى في إقليم كردستان العراق، فتصبح دير الزور بذلك مرادفاً سورياً لكركوك العراقية.
ومن المؤكد أن تركيا لن تكون مستعدة للقبول بهذا الأمر الواقع الجديد الذي يمس مباشرة أمنها القومي، وهو ما دفعها لدخول مدينة الباب السورية وقطع الطريق أمام الزحف الكردي من منبج إلى عفرين. وما قد يدفعها تالياً –في حال تم السير بمشروع الانفصال الكردي– نحو خيارات استراتيجية مزلزلة على المستوى الجيوسياسي، أقلّها حسم موقفها المتذبذب بين المعسكرين الأميركي والروسي، لصالح المعسكر الجار، بما يعنيه ذلك من تحوّلات كبرى على مستوى التحالفات الإقليمية والدولية. وليست مصادفة في هذا السياق أن تتزامن تلك المتغيرات الميدانية مع خطوة تركيا مفاجئة بتعزيز قواتها في الشمال السوري.
علاوة على ذلك، فإن الكل يقر بأن لا آفاق واعدة للمناطق الكردية ذات الحكم الذاتي، فهي تصطدم بمعارضة ايرانية وعراقية وسورية، تماماً كما مثل المعارضة التركية، كذلك أن خيار الانفصال لا يقابل بدعم واضح وصريح من قبل أي طرف، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، بسبب عدم قدرة الأكراد على بلوغ منفذ بحري يقيهم شر غضب الجيران، في حال تطلعوا إلى الاستقلال، لاسيما بعد فشل الانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان الذي حال دون دخول البلاد في صراع أهلي يؤدي إلى التقسيم.
ميزان القوى
أما في الجانب العسكري الخاص بالطرفين المنخرطين في معركة الفرات، فميزان القوى قد لا يصب في نهاية المطاف لصالح المقاتلين الأكراد، فالجيش السوري يبقى الطرف الأقوى بالرغم من الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية، علاوة على أن روسيا تنظر إلى العمليات العسكرية الأميركية في سوريا باعتبارها عملاً غير شرعي –بحسب مبادئ القانون الدولي– بخلاف نظرتها إلى عمليات الجيش السوري الذي يمتلك الحق في التحرّك باعتبار ذلك من أعمال السيادة.
والأهم من كل ما تقدّم أن الأكراد أنفسهم يشعرون بأن علاقتهم بالولايات المتحدة محكومة بمصالح الأخيرة فحسب، أو بمعنى أدق، أنهم بالنسبة إلى إدارة دونالد ترامب –كما إدارة باراك أوباما سابقاً– مجرّد ورقة خاضعة للمساومات، بخلاف الموقف الروسي من الدولة السورية، الذي يبدو أكثر حزماً وصلابة.
انطلاقاً من ذلك، قد يجد الأكراد أنفسهم في لحظة معينة أقرب إلى عقد تسوية مع الدولة السورية نفسها في حال حصولهم على ضمانات روسية تضمن لهم حقوقاً قومية أو ثقافية أو سياسية في الدولة السورية الجديدة.
Leave a Reply