على إحدى الفضائيات العربية، سمعتُ إحدى الأمهات السوريات، تطلب من أبنائها الستة، أن لا يخرجوا للمظاهرات مرة واحدة، وتوصيهم بالخروج واحدا واحدا كل يوم، وغاية الأم أن تستمر المظاهرات ولا يقضي أولادها استشهادا في مظاهرة واحدة.
كنت قد انتهيت من قراءة رواية “ذاكرة الجسد” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، ولفت نظري أيضا في مجلة لبنانية وفي صفحات المجتمع زوجة أحد زعماء لبنان، تحضر أحد الأعراس الراقية في بيروت مرتدية الفراء الثمين ونظارتها الأنيقة، وأكيد تسريحة شعرها الفريدة والاكسسوارات المكملة لأناقتها وطلتها، ممثلة لزوجها الرئيس الذي بلع الأمانة من صاحب الأمانة.
وفي رواية أحلام مستغانمي فقد البطل خالد ذراعه واستشهد القائد الرمز “سي طاهر” خلال الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. كان واحدا من المليون شهيد الذي سقطوا حتى يتحقق الاستقلال الجزائري، ثم انقض اللاهثون على المناصب السياسية الذين لم يقدموا قطرة دم واحدة. أصحاب كل عهد وزمن، “أصحاب الحقائب الدبلوماسية وأصحاب المهمات المشبوهة، أصحاب السعادة وأصحاب التعاسة واصحاب الماضي المجهول، أصحاب النظريات الثورية والكسب السريع، أصحاب العقول الفارغة والفيلات الفخمة والمجالس يتحدث فيها الفرد بصيغة الجمع”، أما خالد بطل الرواية، والذي ضحى بيده من أجل استقلال الجزائر فقد انتهى به المطاف لاجئا في شقة غريبة في باريس!
هذا تقريبا ما حدث في وطن النجوم، لبنان. أمهات الشهداء مثل أم الشهيد البطل حسن جغبير وجدة ولده الشهيد أحمد وغيرهما من الأمهات الثكالى الصابرات اللواتي ربين أولادهن للحياة وليس للموت. هؤلاء الأمهات تماما مثل هذه الأم السورية التي ترضى وتبارك أولادها كشهداء من أجل حرية الوطن. الوطن الذي ينسى شهداءه.
ليس بعيدا عن ديربورن، هنا في مدينة ويندسور الكندية، تعيش الحاجة أم علي بزي والدة أحد الشهداء الأبطال من بنت جبيل. مقارنة بسيطة.. كيف تعيش أم علي والدة الشهيد قاسم بزي وكيف تعيش السيدة الأنيقة صاحبة الصورة في المجلة والتي حصد زوجها ما زرعه غيره.
ببساطة، تعيش الحاجة أم علي بزي، والدة الشهيد، على إعانات التقاعد من الحكومة الكندية، أما السيدة الأخرى فتعيش هي وأولادها وأحفادها في رفاهية كما اعتاد الطفيليون أصحاب الشهرة المزيفة مثل “شهرة ابن أمه” وهي ترتدي أغلى الثياب ومعاطف الفرو الفاخرة في الحفلات والأعراس، ولا تخلو مجلة أو جريدة من صورها هي وغيرها، من سيدات المجتمع التافهات، اللواتي يجنين تعب وصبر أمهات الأبناء والبنات الذين ماتوا واستشهدوا من أجل مجد لبنان.
ماذا جنت الأم التونسية وألأم الليبية والأم اليمنية والأم المصرية؟ لا شيء. وهذه السيدة السورية، والتي تتحدث بفخر واعتزاز وهي تدفع بأولادها كوقود للمظاهرات المستمرة في حمص، حتى يظهر زعيم آخر يقطف ثمرة الشهادة. ما أنبل تضحيتك وما أعظم احتمالك، لكن يا سيدتي لن يكون مصيرك أفضل من أمهات الشهداء على مدار هذا الوطن العربي المعذب.
“كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئا”. هذا ما قالته والدة الطاهر في رواية “ذاكرة الجسد” بعد استقلال الجزائر.
ربما هذا ما قالته وما تقوله كل أم تقدم ولدها شهيداً. تنتظر وطناً فلا يأتي. تنتظر حلما فلا يتحقق. تنظر بحسرة الى أناس مثل أسماك القرش موجودين دائما في الولائم المشبوهة يمتصون دمها بعدما شربوا دم ابنها الشهيد. يبدون لها تعساء في غناهم وجهلهم وصعودهم السريع نحو الانحدار المفجع وليس ببعيد عنهم مثل سوزان مبارك وليلى الطرابلسي.. اللهم لا شماتة.
Leave a Reply