استلقى هشام على فراشه يذاكر دروسه فالامتحانات النهائية للسنة الأخيرة من الكلية قد اقتربت، شعر بالملل فألقى بكتبه جانباً وحدق في السقف واستغرق في الخيال ولم يفق إلا ورابعة ذات الربيع الحادي عشر تقطع عليه سكونه.
رابعة جارته من عائلة الحاج قدري الذي تكفلها مع شقيقتها بعد وفاة والدهما. أواصر الصداقة توطدت بين العائلتين وقد تطوعت رابعة لخدمة عائلته وتقوم بمساعدة أمه المسنة وتلبي حاجات هشام وتخدمه وتمازحه دائماً فتلقي بنكاتها وقفشاتها وهو ينظر إليها كطفلة محبوبة جميلة بريئة ثم لا تلبث أن تستلقي جنبه على السرير تسأله وتمازحه وأحياناً تشاكسه فتضع يدها جنب يده وتقول أنظر يدي البيضاء أجمل من يدك السمراء فيبتسم لها ويقول طبعاً البيضاء أفضل،
هي طفلة تتصرف بعفوية بالغة، تغادر وتعود في الأيام التالية ملقية بسؤالها المتكرر: هل تحتاج شيئاً؟ ثم تضطجع جنبه وتسأله عما يقرأ ويجيبها هل أكملتِ دروسك؟ فتجيبه آه متى أخلص من الدروس المملة فيرد عليها لا تنظري هكذا إلى دروسك فمستقبلك مرهون بها.
كان هشام يذاكر دروسه أحياناً مع صديقه صفاء فتأتي رابعة لتقطع تواصلهما مع الدرس فيزجرها الأخير: انصرفي يا بنت.. دعينا نواصل دروسنا!
كان يطلق عليها عندما تأتي اسم «هوبلِس» أي بـ«لا أمل» في الإنكليزية.. فتطلق ضحكة ثم تنصرف.
كانت رابعة تنقل له أخبار عائلتها وكان مهتماً بما تروي عن أختها الكبيرة أميرة، التي تدرس الآداب. هشام يكن لأميرة شعوراً غامضاً بين الإعجاب والحب، إذ لاحظ رقةً في حديثها معه. أحياناً يتبادلان نظرات خجلى تدل على أن ما يكنّانه لا يخلو من المودة بينهما. وأحياناً يتبادلان بعض الهدايا البسيطة التي لا تتعدى أدوات قرطاسية ونحوها.
أكمل هشام دراسته وتخرج من الجامعة وانتقل إلى مدينة أخرى بعيدة حسب متطلبات وظيفته وانقطعت علاقته بعائلة الحاج قدري.
مضى أكثر من عقدين دون أن يرى أحداً منهم أو يسمع خبراً عنهم، بعد ذلك التقى مصادفةً بأم قدري في أحد الأسواق، وكان لقاءً حميماً بحكم العلاقات المتينة التي ربطته بعائلتها واستفاضت أم قدري بالسؤال عن شؤونه ووضعه، وسألها عن ابنها قدري وابنتيها أميرة ورابعة ثم تبادلا أرقام الهواتف وانتهى الأمر.
بعد شهور ثلاثة رنّ تلفونه. كانت رابعة على الطرف الآخر..
– رابعة: هلو هشام أنا رابعة…
– هشام: يا أهلاً برابعة.. كيف الأحوال.. كيف عرفت رقم هاتفي؟
– رابعة: وجدته في قائمة أرقام أمي
– هشام: يالها من مصادفة سعيدة
– رابعة: حقاً مصير الحي يلتقي
ثم أردفت: أريد أن أراك إن لم يكن لديك مانع
– هشام: حسناً
حسب الموعد دخل إلى المصرف الذي تعمل فيه رابعة فوجد أعداداً من الفتيات خلف مناضدهن وأمعن النظر فيهن ووقف حائراً فهو لا يستطيع التعرف على رابعة لمرور أعوام كثيرة على آخر مرة شاهدها فيها وهي طفلة. لا بد أن شكلها قد تغير. هو نفسه قد تغير وخَطّ بعض الشيب مفرقه.
لم يطل الوقت به طويلاً حتى أقبلت نحوه فتاة مبتسمة تجاوزت الثلاثين من العمر، وسألته: هل أنت هشام؟ فرد بالإيجاب. قالت: أنا رابعة…
تبادلا التحايا وقالت له انتظرني وسأعود اليك بعد قليل، انتظرها خارج المصرف وبعد هنيهة ظهرت وقالت له اترك سيارتك في المرآب ولنستقل سيارتي.
كانت رابعة في غاية الأناقة، ولا تمت بصلة إلى رابعة الطفلة.
أخذ يتطلع إليها وهي تقود سيارتها. كم كانت صغيرةً تتصرف على سجيتها وتتكلم بعفوية ولا تهتم كثيراً بمظهرها، وهي الآن سيدة أنيقة ومظهرها يشي بإهتمامها البالغ بهندامها وتصفيف شعرها ومكياجها. تتصرف بإتيكيت عالٍ وتتكلم وكأنها تراجع كلامها.
حدثته عن فترة الانقطاع بينهما وكيف أن أمها أصرت على أن تزوجها وهي صغيرة من رجلٍ يكبرها بربع قرن لأنه ثري وقريب لأمها ويتمتع بمنصب مهم. لم يكن بوسعها أن ترفض ذلك، وقتها سيما وأنها كانت يتيمة الأب. شكَت لهشام بأنها لم تتمتع بحياتها وشبابها ولم تعش فترة مراهقة، وفقد أكملت الدراسة في كلية التجارة وهي بعهدة زوجها.
استمرت اللقاءات بينهما. إذ أن هشاماً يؤمن بأن لا غبار على الصداقة بين الجنسين كسائر الصداقات الأخرى، كانت اللقاءات لا تتعدى التجول بسيارتها عبر الشوارع أو توقف سيارتها قرب أحد المنتزهات ويتبادلان الأحاديث والذكريات داخل السيارة، إذ كانت تخشى ارتياد الأماكن العامة بصحبته.
توطدت الصداقة بينهما وفي أحد الأيام أخذت تعاتبه بمرارة..
– رابعة: هل تتذكر عندما كنت أزوركم في بيتكم وأنا صبية؟
– هشام: أتذكر ذلك جيداً.
– رابعة: كنتُ أرغب في أن تعتبرني أنثى تتودد إليكَ
– هشام: لكنك كنت صغيرة ولستِ في عمرٍ فتاة يمكن أن أغازلها.
– رابعة (بعد أن قطبت حاجبيها): ألم يكن لديك إحساس بما كنت أريده؟ لو أحسست بي حينذاك لما ندمت على أنني حتى الآن لم أعش حياة طبيعية مثل بقية الفتيات.. لكنتُ اكتفيتُ منك بالقليل ليعوضني عن الحرمان مع زوج ليس من عالمي.
– هشام: قلتُ لكِ، كنت صغيرة.. كيف لي أن أسمح لنفسي بأن أغازل بنتاً في هذا العمر؟ ولا تنسي.. كنتُ وقتها أتطلع إلى أختك أميرة وأفكر بالاقتران بها.
– رابعة: أما زلت تفكر بها؟
– هشام: لا طبعاً ولكني متأسف لارتباطها بغيري
– رابعة : أها متأسف! يعني لا زلت تحبها
– هشام: لا تفهمي كلامي بما لم أقصده.
بدأت ملامح الامتعاض ظاهرة على محياها وتعكر مزاجها طيلة وقت اللقاء.
تميزت لقاءاتهما التالية بالمناكفات التي وصلت أحياناً حد الشجار، وسادت فترة من الانقطاع بينهما. وحين عادا للقاء ثانية سألته: كنتَ وصديقكَ تصفانني بأني «هوبلِس»، ألم يكن ذلك استخفاف بي أم فعلاً لا يوجد أمل؟
فأجابها مبتسماً: كنا نقصد أنكِ صغيرة…
عندما أعادته إلى سيارته وهمَّ بالترجل إليها، فوجئ برابعة تقول: اعتبر هذا آخر لقاء بيننا!
Leave a Reply