زيارة عون إلى سوريا وصلاته على قبر مار مارون أغاظتا «سيد بكركي»
لم يكن مفاجئاً انحياز البطريرك الماروني مار نصر الله صفير الى قوى «14 آذار» بل هو بالنسبة اليها «مرشدها الروحي»، لا بل مؤسسها، منذ أنشأ «لقاء قرنة شهوان»، الذي هو «المكتب السياسي» للبطريركية المارونية، وبدأ العمل معه لإخراج القوات السورية من لبنان، ولوقف المقاومة ونزع سلاحها، اذ كان سيد بكركي ينظر الى عمليات المقاومة بأنها أحداث أمنية، والى شهدائها بأنهم «قتلى» ويذيع «رقيماً بطريركياً»، في تشييع أحد كبار العملاء مع الاحتلال الاسرائيلي عقل هاشم الذي قتلته المقاومة في الجنوب.فالبطريرك الماروني الذي يقال «ان مجد لبنان أعطي له»، لا يتصرف وفق هذه المقولة داخل طائفته اولاً، إذ هو يساند «القوات اللبنانية»، ويؤيد «حزب الكتائب»، ويحتضن كل الأحزاب والشخصيات التي تناهض سوريا وتخاصم المقاومة، وقد شكل منهم متراسه السياسي ليخوضوا معه ما أسماها «معركة السيادة والاستقلال»، وقد انتدب مطراناً هو يوسف بشارة ليترأس لقاءً سياسياً من مقر المطرانية في قرنة شهوان، وهو ما وضع سدة البطريركية طرفاً في الصراع الداخلي، بعدما انصرفت الى العمل السياسي، فلقيت معارضة على تصرفاتها وانتقادات على سلوكها وأدائها، من مسيحيين لا يؤيدون نهجها وخطابها السياسي وتحولها الى غرفة عمليات سياسية وتعبوية، ضد الوجود السوري والمقاومة وحلفاء سوريا، وقد أدى ذلك الى تلقي البطريرك صفير نقداً لاذعاً من رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، الذي أطلق عليه مناصروه لقب «البطريرك»، كإشارة الى صفير انه لا يمثلهم ولا يعبر عنهم، او ان خطه السياسي يخلق متاريس بين الموارنة، بدلاً من ان يكون موقعه جامعاً وبكركي ملتقى الجميع.فهذه المواقف لصفير بتبنيه خطاً سياسياً فئوياً، وان كان حمل شعارات وطنية، لم يكن وليدة قرار مستقل من بكركي، على ما يعرف المطلعون، اذ انه مستند الى دعم أميركي وموحى به من واشنطن ولم تغب عنه باريس، وهو ما أكده البطريرك نفسه، لا سيما بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الامن بتوافق أميركي-فرنسي، وبعد الاحتلال الاميركي للعراق، بأن على لبنان أن يستفيد من التحولات الاقليمية والدولية، ويسعى الى «تحرير أرضه من الغرباء»، قاصداً القوات السورية، وذهب أكثر من مرة الى الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا ودول أخرى، مطالباً بإخراج القوات السورية من لبنان، وقد اتفق في الداخل مع النائب وليد جنبلاط على أن يُستفاد مما جرى في العراق، والتقارب الفرنسي-الاميركي، وان تتوحد القوى المناهضة للوجود السوري في لقاء موسع، وان تنضم الى «لقاء قرنة شهوان» المسيحي شخصيات إسلامية، فكانت المصالحة في الجبل بين صفير وجنبلاط الإشارة الاولى لانتقال الاخير من ضفة التحالف مع سوريا، الى مخاصمتها، والتي بدأها بحملات على وجودها العسكري والامني، وعلى حلفائها في لبنان، بعدما اختار له حلفاء جدداً من «القوات اللبنانية»، إضافة الى الكتائب والوطنيين الأحرار وغيرهما.وظهر صفير كأب روحي لكل تحركات «لقاء قرنة شهوان» الذي لم ينخرط فيه «التيار الوطني الحر»، واعتبر أنه يصب في خانة خدمة أهداف خارجية، أكثر منها أهداف سيادية، لها علاقة بخروج القوات السورية فقط، وعودة العلاقات مع سوريا، بل ان بعضهم ارتبط بمشروع تحويل لبنان الى ساحة للانقضاض على النظام في سوريا، وهذا ما انكشف بعد خروج الجيش السوري من لبنان، كما لم يكمل «العونيون» حضور اجتماعات «لقاء البريستول» الذي انضم اليه الرئيس رفيق الحريري عبر «تيار المستقبل» بتمثيله من خلال النائبين غطاس خوري ونبيل دو فريج، بعدما كان التحق به جنبلاط ونوابه.فكل أداء البطريرك الماروني يكشف عن انحيازه الى أطراف مارونية سياسية يعتبرها أداته التنفيذية في تحقيق أهدافه السياسية، لذلك لم يتفاهم مع العماد ميشال عون، الذي كان ينظر الى صفير على انه ينفذ «اجندة اميركية»، منذ أن لبى طلبات واشنطن في ما يختص برئاسة الجمهورية واتفاق الطائف، الى تغطية «القوات اللبنانية» في صراعها مع الشرعية التي كان يمثلها عون في القصر الجمهوري في بعبدا كرئيس «للحكومة العسكرية».لذلك لم يفاجأ رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير» بمواقف صفير الأخيرة، التي انحاز فيها الى قوى «14 آذار» وهاجم المعارضة، واعتبر أن فوزها في الانتخابات سيغير من هوية لبنان وموقعه وسيكون كارثة عليه، في رسالة مباشرة منه، وتحريض للموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً، على عدم انتخاب لوائح المعارضة، وتحديداً في المناطق المسيحية، التي يمثلها تحالف «المردة» و«التيار الوطني الحر» وشخصيات مسيحية اخرى، حيث أثبت رأس الكنيسة المارونية أنه طرف ويتدخل في الانتخابات، وتلوّث بالسياسة، وهذا التدخل دفع العماد عون وشخصيات في المعارضة للنظر الى البطريرك نظرة الخصم السياسي، والبطريرك السياسي للموالاة، وأحد «مفاتيحها الانتخابية».وتدخل صفير في الانتخابات ودعمه للوائح الموالاة يؤكدان أن المعركة مصيرية وأن على نتائجها يتوقف مصير لبنان كما ذكر البطريرك الذي يعتبر أن فشل قوى «14 آذار» سيرتب على لبنان الكثير من الخطورة، لان عون وحلفاءه سينقلونه الى المحور السوري-الايراني، لا سيما بعدما زار كلاً من طهران ودمشق، وهو لا ينكر تحالفه السياسي معهما، وانحيازه الى جانب المقاومة ليس في لبنان فقط بل في غزة وفلسطين، والهجوم الذي يشنه رئيس «التيار الوطني الحر» على أميركا ويتهمها مع اسرائيل بتهجير المسيحيين وترحيلهم من الشرق، وإفراغ المنطقة من الوجود المسيحي، وقرر أن يتوجه الى الدول التي تقارع وتواجه المشاريع الأميركية للحفاظ على الحضور المسيحي وعلى مهد المسيحية وانطلاقتها من هذا المشرق.فبين نهج صفير وتفكير عون تباعد كبير في النظرة الى المسائل الاستراتيجية، التي حددها «السينودس من أجل لبنان» برئاسة البابا يوحنا بولس الثاني، الذي دعا الى الحفاظ على المسيحيين في لبنان وتفاعلهم مع محيطهم العربي، وحمل قضاياه، ولم يلتزم البطريرك الماروني به ويسير عليه، بل ذهب وفق «تفكيره الانعزالي»، كما يقول معارضوه في رفض كل تقارب مع سوريا، وهو لم يذهب للقاء البابا يوحنا بولس الثاني الى دمشق لمواكبته في زيارته الى مهد المسيحية، والسير على الطريق التي سار عليها أحد رسل المسيح يوحنا المعمدان، كما كان يرفض اية زيارة لتفقد أبناء طائفته في سوريا التي جاء منها مار مارون، فذهب اليها عون وزار قبر مؤسس الطائفة المارونية وصلى عليه، واكتشف أن المسيحية متجذرة في بلاد الشام، وأن المسيحيين المشرقيين لهم دور كبير في الحفاظ على العروبة.من هنا فإن وقوف صفير الى جانب قوى «14 آذار» أمر طبيعي من بطريرك لا يخرج تفكيره عن جبل لبنان، والقضايا الجزئية، وهو الذي يحمل صفة بطريرك انطاكية وسائر المشرق، وقد بدأ يرفضها ليكتفي بـ«مجد لبنان أعطي له»، والذي يريد للمسيحيين عموماً والموارنة منهم خصوصاً أن يعيشوا معزولين في الجبال، أو يغامروا للسفر في البحار، وهذه هي الأزمة مع البطريرك الذي قرر أن يكون بطريركاً لمجموعة سياسية هي قوى «14 آذار».
Leave a Reply