ما أن تأتي ذكرى مولد النبي (ص) في كل سنة مع إطلالة شهر ربيع الأول، إلا وينبعث شعور في قلوب محبيه من المسلمين كافة من يعتقد بهذه الذكرى ومن ينكرها وينقسم المسلمون الى إتجاهين، ألأول يترجم مشاعره في حب النبي الى تأكيد هذه الذكرى والإحتفاء بها كل حسب طريقته, ويتميز أتباع هذا الإعتقاد بأنهم الأغلب في عالمنا الإسلامي، وفي ذلك كتب العلماء والباحثون في رجحان العمل بها وإقامتها، ويقدمون الإدلة والبراهين على أهميتها وفؤائدها الكثيرة تصل أحياناً الى الإعتماد إلى ما جاء في القرأن من تعظيم الله لنبيه (ص) ووصفه بصفات ينفرد بها على سائر البشر، وأوضح دليل عند أصحاب هذا الإتجاه هو معجزته الخالدة، القرأن، الرسالة التي بعث بها (ص) وهي خاتمة الرسالات للبشرية جمعاء، فالذي يسمع كلام الله أو يقرأ القرأن فأنه يستحضر الرسول ألأكرم في قلبه ووجدانه، لأن كلام الله سبحانه موجه الى الرسول فكل أمر أو نهي أو خبر أو حكم مفاده القول للرسول (ص) ثم ينتقل الى عباد الله من الآنس والجن، ويقول أصحاب هذا الرأي ما أعتاد عليه المسلمون منذ قرون على الإحتفال بذكرى المولد النبي الشريف وتلاوة السيرة العطرة وإطعام الطعام وتوزيع الحلوى، ثم تطور الإحتفال بالمولد الى إقامة المهرجانات والمؤتمرات، الى إن بادرت دولة إسلامية الى إقامة أسبوع الوحدة التي تجمع شمل المسلمين.
ومن إدلة المعتقدين بهذه الذكرى العطرة قول الله تعالى في محكم تنزيله }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِين{ لو لم يكن بين أيدينا سوى هذه الآية لتقديم الدليل على شرعية الإحتفال بيوم مولد النبي (ص) لكان كافيا وافيا شافيا، لأن المولى تبارك وتعالى لم يحدد لنا نوعية الذكرى، ولا كيفية ممارستها بالتفصيل. ونرى من خلال الآية أنها تكون للمؤمنين ، ولهذا يجب أن تكون مما يليق بأمثالهم. إنه جواز مرور من باب مفتوح على مصرعيه إلى عالم لا محدود من السبل والإجتهادات والنماذج، تصب كلها في مصلحة الأمة من لحظة نزول الآية إلى يوم القيامة.
أما الإتجاه الآخر الذي يعتبر الإحتفال بدعة، ويرى الاحتفال بمناسبة مولد الرسول (ص) ممنوع ومردود، لأنه لم يكن من سنة الرسول (ص) ولا من سنة خلفائه. وما كان كذلك فهو من البدع الممنوعة، لقوله (ص): «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (أخرجه أحمد 126/4، والترمذي برقم 2676). ويرون ان الاحتفال بالمولد محدث أحدثه الشيعة الفاطميون بعد القرون المفضلة لإفساد دين المسلمين . ودليهم ان من فعل شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى لم يفعله الرسول (ص) ولم يأمر به، ولم يفعله خلفاؤه من بعده، فقد تضمن فعلُه اتهامَ الرسول بأنه لم يبين للناس دينهم، وتكذيب قوله تعالى: }اليوم أكملت لكم دينكم{ (المائدة/3) لأنه جاء بزيادة يزعم أنها من الدين ولم يأت بها الرسول (ص).
مؤاخذات المعتقدين على المنكرين:
المؤاخذة الأولى:
طريقة المعالجة البعيدة عن المنطق العلمي والعقلي ورد الدليل بالدليل وإستعمال أسوأ أساليب القدح والسباب، والتجريح والتبديع التي يواجهون بها أغلبية ساحقة من المسلمين دون مراعاة مشاعر أخوانهم معتمدين على حجة أن الرسول (ص) لم يأمر بهذا العمل ولا الصحابه، ويستميتون في محاربة كل شيء لم يعمل به الرسول ولم يقره حتى لو كان حسناً، لكنهم تناسوا قيمة عظمى ثبتها القران وعمل بها الرسول (ص) في قوله تعالى }إنما المؤمنون إخوة فإصلحوا بين أخويكم{ وهم بهذه الطريقة من المعالجة يفسدون بين الأخوة.
المؤاخذه الثانية:
إذا كان الرسول مكلف بالتذكير في قوله تعالى} فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر{، لكن القوم بطريقتهم يخالفون الرسول (ص) في دعوته لمن يخالفه بغية إقناعة بفكرته لا بسبه وشتمه والتجني عليه وطرده من حضيرة الأسلام إن كان جاهلا. ولم يكن الرسول فظاً في دعوته للإسلام يقول تعالى: }فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفو عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين{.
المؤاخذة الثالثة:
لماذا هذا الإنكار للحقائق وهم يعلمون إن المسلمين الذين يحيون ذكرى مولد النبي (ص) لا شك ولا ريب أنهم بحبون ويعشقون ويذوبون في حبه (ص) ولا يمكن لأحد من هؤلاء أن يكون في قلبه ذرة من النفاق أو الحقد أو التفكير في الإساءة الى الرسول بفعل أو قول، غاية ما هناك إختلاف الناس في طريقة إحياء الذكرى كل بحسب بيئته ومجتمعه شرط أن لا يرتكب محرماً معلوماً وليس مؤولا، كم يحلو للمنكرين إتهام أخوانهم المؤمنين بقولهم بأن منهم من يجعل المناسبة مجرد اجتماع تُقرأ فيه قصة المولد، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة. ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك، ويقدمه لمن حضر. ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت. ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول (ص) وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك. ما هذا الإفتراء على المسملين وما هذا الحقد؟ فقط لأنهم يقيمون ذكرى مولد الرسول، منقذ البشرية الذي بعث رحمة للعالمين وهم بذلك يعلنون مبادىء الرحمة والسلام , ويقولون للأمم التي تقدس أنبيائها، هذه طريقتنا في تخليد من نعشق ونحب بأظهار مبادئه.
المؤاخذة الرابعة:
حين نسمع كلام المنكرين لهذه المناسبة في إعلان حبهم للرسول نستغرب مواقفهم من أمة نبيهم، فأنتم تقولون، وقولكم صادق، قال رسول الله (ص) مبينا أن من مقتضى الإيمان حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره، وتستشهدون بهذه الروايات، «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»، (البخاري). وتقولون إن – مميزات النبي (ص): إن الرسول أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس وأعظم الناس في كل شيء وهذه كلها دواعي لأن يكون (ص) أحب الناس. وتقولون إن – شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها، كما وصفه ربه «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم»، ولذلك أرجأ استجابة دعوته شفاعة لأمته غدا يوم القيامة. إذا ما سر هذا الضجيج والتهريج على أقدس منابر المسلمين وكأن الإحتفال بالمولد جريمة وكبيرة من الكبائر، لماذا لا تحسنون الظن بإخوانكم، وما المانع الشرعي من أخذ ذلك الإحتفال على أنه برنامج تربوي استلهمه واضعوه من قراءة خاصة للتاريخ ، ورأوا فيه بمقتضى دوافع وأحوال العصر ما هو أكثر صلاحا في إيصال رسالة من غيره من البرامج.
خلاصة القول
ألا يتسع صدر المنكرين لهذه الذكرى بمحمل واحد من سبعين محمل لاخونهم المعتقدين بها، أنهم إجتهدوا بهذه البدعة الحسنة فإن أخطئوا فلهم أجر واحد وإن أصابوا لهم أجران، وأنتم تشفعون لأعرابي اعلن حبه للرسول كما جاء في صحيح البخاري: روى البخاري عَنْ انس بن مالك: ان أعرابيا قال لرسول الله (ص): مَتَىَ السَّاعَةُ؟، قَالَ لَهُ رسول الله (ص): مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟، قَالَ: حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا به.
اللهم أجمع شمل المسلمين على محبة نبيهم صلى الله عليه وآله.
Leave a Reply