«3000 ليلة»: ولادة الأمل من رحم اليأس
ساكرمنتو – محمد العزير
كيف تصنع الأمل في زنزانة من اليأس؟ كيف تتصور ابتسامة في وجه جلّاد؟ كيف تواصل حياة فقدت فيها نصفك الآخر. ليس نصفاً أخر بالمعنى الاجتماعي للكلمة. بل نصف آخر بالمعنى الإنساني والنضالي والإبداعي. لا يمكن لأية صورة أن تطرح كل هذه الأسئلة مثل وجه مي المصري المخرجة والمنتجة التلفزيونية العربية الشهيرة، الفلسطينية ابنة نابلس التي وجدت نفسها وهي في اوج عطائها منفردة للمرة الأولى في حياتها البليغة، بعد أن فقدت رفيق حياتها ودربها ونضالها جان شمعون، البعلبكي اللبناني الذي قرر في زمان الانقسام الطائفي الخبيث أن ينتمي إلى الحق ليصبح مع مي أشهر ثنائي سينمائي ملتزم في دنيا العرب.
«كانت فلسطين والسينما تجمعاننا» بهذه العفوية وهذه الشكيمة تجيب مي المصري على سؤال «صدى الوطن» عن المستقبل بعدما غيب الموت جان شمعون الصيف الماضي. لم تترمل مي المصري بالمعنى التقليدي لمن فقدت الزوج. تابعت المسيرة بثبات وصبر وعزيمة.
«أشعر أنه معي. في الاستديو، في غرفة المونتاج، في المسرح، في الميدان حيث نصور، خلف الكاميرا ووراء كل كلمة. جان لم يفارقني ولن يفارقني هو باقٍ ما حييت».
لا تتردد مي المصري في إعلان موقفها وموقعها. لم تستسلم للأسود والتعازي والشفقة. هي ليست كذلك ولم يقتصر ما يجمعها بجان شمعون على فلسطين والسينما فقط. كانت هناك نور وهنا، ابنتاهما وثمرة زواجهما، الحريصتان على المسيرة ليس كإرث وانما كموهبة.
فيلم روائي
لم تكن مي المصري في الغياب الجسدي لجان تحتاج إلى أكثر من جناحين تواصل بهما الطيران في عالم الإبداع، وكانتا جناحيها، وحتى قبل أن يفارق جان الحياة، بعد معاناة لئيمة مع مرض ألزهايمر، كان أول منتج إبداعي جديد يتخذ شكله النهائي، «3000 ليلة» فيلماً روائياً هو الأول بالتوقيع المنفرد لمي. فيلماً يحكي قصة السجينات الفلسطينيات في الأسر الإسرائيلي. فيلماً مقتبساً من حياة المعتقلة السابقة ماجدة السلايمة التي أنجبت ابنها في المعتقل وعاش معها سجيناً لا ذنب له زهاء سنتين قبل الإفراج عنهما.
هذه حكايات من النوع الذي اعتقدنا انه انتهى بحلول الألفية الثالثة. لكن إسرائيل كفكرة وعقيدة ودولة، آخر دولة استعمارية في العالم، تصر على اجترارها على حساب الشعب الفلسطيني، آخر شعب محتل في العالم. لذلك لا بد ممن يرفع الصوت، والذي رفع الصوت في وجه إسرائيل في فلسطين ولبنان بكل عنجهيتها وعدوانيتها واجتياحاتها وحروبها، هو الجدير بأن يرتفع الآن، وأكثر من أي وقت مضى ليكتشف الإنسان العربي الذي طاله التشويه الذاتي والخارجي، كما تقول مي المصري.
تحاول المصري في هذا الفيلم الذي حاز على 24 جائزة عربية وعالمية –حتى في أميركا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي– أن تعيد تصويب البوصلة نحو الإنسان العربي. كيف يمكن لذلك أن يتحقق ونحن نرى التذابح العربي في كل مكان؟ سألتها.
«يجب أن يتحقق ذلك لهذا السبب بالتحديد» أجابت. «ما يجري الآن هو عملية ممنهجة لمحو الذاكرة ومحو المكان ومحو الإنسان»، أوضحت المصري مضيفة: «علينا… على الفن أن يعيد بناء صورة الإنسان العربي. لم يعد مجدياً لوم الغرب على تدمير صورة الإنسان العربي. لقد انغمسنا كعرب في هذه اللعبة وعلينا رؤية أنفسنا من جديد».
الإيمان بالقضية.. والناس
لا تجد مي المصري فارقاً كبيراً بين الأعمال التوثيقية، وهي أكثر الأعمال التي اشتغلت عليها مع جان شمعون، وبين الأعمال الروائية ما دامت تحاكي الواقع، وترى أن الأعمال الإبداعية لا تقل أثراً عن الأعمال التوثيقية ما دامت تستند إلى الواقع المعاش. لذلك لا تتوانى المصري عن التجوال بمنتجها الجديد ليصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
هي تؤمن بالناس. «ربما الأخبار الفظيعة والمذابح تسيطر على عناوين الأخبار لكنها لا تسيطر على عقول الناس»، تقول بثقة.
«من خلال احتكاكي مع حضور الفيلم ومع الناس لا يمكنني إلاّ أن أتفاءل بأن المستقبل سيكون أفضل وأن للكلمة مكانتها وللصورة أثرها وللحقيقة وقعها».
من أين تأتي هذه الإنسانة الوديعة بكل هذا التفاؤل وسط هذا الخراب؟ لا بد لك أن تسأل وأنت تجري مقابلة صحفية مع إنسانة فقدت رفيق دربها منذ بضعة أشهر لكنها لم تجد وقتاً للمواساة.
هناك قضية أكبر وأهم وأبقى، قضية الحق الفلسطيني الذي يجب أن لا يضيع، فليس لشخص أياً يكن أن يقرر هويات المدن ولا لرئيس أياً كان يمنح شعباً الحق في الحياة. هي كلمات، لكنها كلمات العارف بقوة الكلمة وبلاغة الصورة وحتمية الموقف.
ربما من المبكر الحديث عن الشكل النهائي الذي سيكون عليه مشروع تخليد ذكرى جان شمعون وريادته، لكن الاحتفاليات والفعاليات التي تقام على اسمه وتكريماً له عربياً ودولياً تشير إلى أن ثمة مشروعاً دائماً سيحمل اسمه سواء من خلال منح أو جوائز أو معرض دائم.
وصلت مي المصري إلى أميركا هذا الأسبوع لمواكبة عرض فيلمها «3000 ليلة» في جامعة «نيو سكوول» في مدينة نيويورك (16 و17 نيسان/أبريل الحالي) وجامعة «براون» وجامعة «سيراكيوز» في 18 نيسان، وفي «المتحف الوطني العربي الأميركي» في ديربورن، ميشيغن في ٢٢ نيسان. وأبلغت المصري «صدى الوطن» أن الفيلم سيكون متوفراً على الإنترنت وعلى الأقراص المدمجة اعتباراً من الشهر المقبل.
Leave a Reply