نبيل هيثم – «صدى الوطن»
أخطر ما في الأزمة السورية دخولها في «ستاتيكو» سياسي و«استنزاف» عسكري.
سياسياً، لم تعد القوى الدولية، بما في ذلك الجهة الوسيطة تفاوضياً برئاسة استيفان دي مستورا، تمتلك سوى الدعوات المكررة إلى استئناف المفاوضات بين النظام السوري وقوى المعارضة، ولم تعد قادرة على تقديم سوى آمال وهمية بالعودة الى المسار السياسي.
أما عسكرياً، وهنا الخطوة الأكبر، فإن الأيام القليلة الماضية، أظهرت ان الكل في سوريا قد دخل في حرب استنزاف، وإن تفاوتت انعكاساتها بين فصيل وآخر، إلا أنها بددت الكثير من التوقعات بشأن التقدّم هنا، أو ربما الحسم هناك، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة لعل أبزرها ما يلي:
– لماذا توقف التقدّم الميداني أمام تنظيم «داعش» في شمال الرقة وجنوبها، بعدما أوحت معطيات القتال بأن اقتحام عاصمة «الخلافة» بات قاب قوسين أو أدنى؟
– لماذا توقف هجوم «قوات سوريا الديمقراطية» في ريف حلب الشمالي، بعد التقدّم الذي حققته، مدعومة بالطيران الأميركي، في تلك المدينة الحدودية، منبج، التي لم تكد تمضي ثلاثة أيام على اقتحام مداخلها، إلا وكان تكفيريو «داعش» يشنون الهجوم المضاد لاستعادتها؟
– لماذا تحرّكت جبهة ريف حلب الجنوبي فجأة، وبوتيرة غير مسبوقة منذ مدّة، ولماذا شن تحالف «جيش الفتح»، المؤلف من فصائل «جهادية» بقيادة تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي على مواقع الجيش السوري وحلفائه، لا سيما في الخلصة.
لا شيء واضحاً حتى الآن، وربما في تقدّم سيناريوهات القتال خلال الأيام المقبلة بعض الإجابات، ولكن الثابت أن لا تغييرات مرتقبة على مستوى الحل السياسي في سوريا قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي ستحدد وجهة تعامل سيد/ة البيت الأبيض الجديد مع الملف السوري.
وفي ظل تعثر المسار السياسي، فإن أطرافاً كثيرة، وأبرزها تلك المتضررة من الانتصارات الأخيرة للتحالف الروسي–السوري، ستعمل الى إطالة أمد الصراع المسلح في سوريا، عبر الدفع بكل ما أوتيت من إمكانات، بما يمنع من تحقيق حسم عسكري، او حتى إحداث تغييرات دراماتيكية في المشهد الميداني.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فك شيفرة توقف معركة الرقة، التي بادرت إليها الولايات المتحدة، عبر دعمها المباشر للأكراد في الريف الشمالي، ودعمها غير المباشر للجهود التي قام بها الجيش السوري في الريف الجنوبي.
وانطلاقاً من ذلك أيضاً، يمكن فهم سبب تحويل الجهود العسكرية لمعركة الرقة باتجاه منبج، التي يدرك الأميركيون جيداً ان طريق الأكراد اليها مزروع بالغام الحليف التركي الذي يعتبر إقامة حزام كردي من رأس العين الى عفرين، مروراً بكوباني، خطاً أحمر في ميزان الأمن القومي.
وانطلاقاً مما تقدّم أيضاً، يمكن فك لغز الضوء الأخضر السعودي-التركي لتحريك جبهة ريف حلب الجنوبي، وتحديداً في نقطة الخلصة، التي تتعرّض منذ بدء معركة منبج المتعثرة، محاولات اختراق مستميتة من قبل الجماعات المسلحة («جبهة النصرة» و«الحزب الاسلامي التركستاني»، و«فيلق الشام» و«حركة نور الدين الزنكي» و«أحرار الشام» و«الفرقة 13»)، التي تتولى انقرة والرياض ضبط ايقاع تحركها ضمن غرفة عمليات خاصة في تركيا.
ولا يقتصر الأمر، كما هو واضح، على العبث التركي-السعودي، فحتى الولايات المتحدة، باتت تتعامل بحذر مع أي مقترح لحسم الموقف الميداني، ولو جزئياً ضد «داعش» في سوريا، خصوصاً بعدما طفت على السطح التناقضات الشديدة بين الإدارة الاميركية والسلك الديبلوماسي، بعد الرسالة الشهيرة للديبلوماسيين الخمسين المطالبة بالتدخل عسكرياً ضد النظام السوري، وأيضاً بين ادارة اوباما من جهة، وفريق وزارة الخارجية من جهة ثانية، والدوائر العسكرية والاستخباراتية الاميركية من جهة ثالثة، إزاء سبل التعامل مع الملف السوري.
وإذا كان الرئيس باراك أوباما وبعض مسؤولي إدارته قد دفعوا باتجاه تحقيق بعض المكاسب العسكرية أمام تنظيم «داعش» في العراق وسوريا في الآونة الأخيرة، فإن مسؤولين أميركيين آخرين وخبراء نافذين بدأوا يحذرون من أن الحملة الجوية والبرية التي تدعمها الولايات المتحدة ما زالت بعيدة عن القضاء على «داعش»، لا بل أنها قد تأتي بأثر عكسي.
الموقف الحذر، الذي أبداه مسؤولون في الإدارة الأميركية، تسرّب أو سُرّب مؤخراً، إلى الكثير من وسائل الإعلام الغربية، بمواقف متعددة، تجمعها فكرة واحدة، وهي أن الانتصارات الميدانية على «داعش» في الميدانين العراقي والسوري، ستحول التنظيم -مع خسارة أراض في مدينة الفلوجة العراقية ومناطق أخرى- إلى تكتيكات عسكرية أقل تقليدية، وأن يوجه ويحرض على مزيد من الهجمات على أهداف «ناعمة» في أوروبا والولايات المتحدة وبقاع أخرى، خصوصاً ان ثمة قناعة لدى اجهزة الاستخبارات العالمية بأن قدرة تنظيم أبي بكر البغدادي على اجتذاب «الذئاب المنفردة» لم يعد مرتبطاً بمدى نجاحاته أو اخفاقاته في ميدان القتال المباشر.
هذا الرأي، تبنّاه بوضوح مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان، حين قال، في مداخلة امام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ، الأسبوع الماضي، ان «جهودنا لم تحدّ من قدرة الجماعة على الإرهاب ولم تقلص وجودها على الساحة العالمية» وان «الموارد التي يحتاجها الإرهاب متواضعة جداً. ويستلزم الأمر أن تعاني الجماعة خسائر أكبر في ما يتعلق بالأراضي والقوة البشرية والمال حتى تنحسر قدرتها على الإرهاب بنحو كبير».
وعلى هذا الأساس، فإنّ هجوم أورلاندو، الذي تبنّاه «داعش»، بدا وكأنه أتى ليقلب الطاولة على أوباما، الذي لا بد أنه قد فكر في إمكانية تعزيز الحملة العسكرية في سوريا والعراق لوقف الهجمات الشرسة من قبل المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والمضي في معركتي الرقة ومنبج نحو النهاية، وتقديم النصر على «داعش» هدية انتخابية لهيلاري كلينتون.
ومن المرجّح أن يكون هناك انقسام كبير بين فريق مستشاري أوباما إزاء هذا الخيار، وهو ما تبدّى مباشرة بعد هجوم أورلاندو، المتزامن مع الاندفاعة في الشمال السوري، حيث حفلت وسائل الاعلام الأميركية بتحذيرات اطلقها مسؤولون ومستشارون وخبراء أميركيون مفادها ان الحملات الأخيرة ضد «داعش» في الفلوجة والرقة ومنبج قد تكون ساهمت في محو صورة التنظيم التكفيري ككيان لا يقهر، لكنها في المقابل قد تضفي عليه قدرا أكبر من «الشرعية» في صفوف الكثير من القوى السنّية، التي لا تنظر الى ما يجري في سوريا والعراق إلا ضمن زاوية واحدة، وهي أنها حرب طائفية وأن المقاتلين «الشيعة» («الحشد الشعبي» و«حزب الله») و«الأكراد» («وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديموقراطية» يمثلون جزءاً رئيسياً من الحملة العسكرية ضد تنظيم أبي بكر البغدادي.
وعلاوة على ذلك، فإن ثمة من ينظر بقلق إلى إمكانية تحول «داعش»، في ظل خسارته الكثير من الاراضي في سوريا والعراق إلى التحول بصورة أكبر إلى أساليب حرب العصابات لإفشال جهود استعادة الخدمات الحكومية، أو حتى الإغاثية، كما جرى بالفعل من قبل حين استهدف التكفيريون المرافق الحيوية في بغداد، وربما كما حدث قبل يومين حين ضرب الإرهاب مخيماً للاجئين على الحدود الاردنية-السورية.
إمّا «داعش».. وإمّا «القاعدة»!
تكاثرت التحليلات الغربية خلال الفترة الأخيرة ازاء السيناريوهات المحتملة لهزيمة «داعش».
أخطر تلك التحليلات، أن تلك الهزيمة المحتملة قد تعني عودة «جبهة النصرة»، الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»، الى الواجهة.
واذا كانت تلك التحليلات الغربية تنطلق من ان فرضية الانحسار العسكري الكبير لـ«داعش» لا تزال بعيدة، لكنها قابلة للتحقق، جزئياً في سوريا، خصوصاً ان الحاضنة الشعبية للتنظيم هناك اقل منها في العراق، القلب الحقيقي لـ«خلافة» البغدادي.
وانطلاقاً من ذلك، يرى بعض الخبراء، أن حدوث هزيمة كبيرة في الرقة، لن تؤدي الى نهاية الجهاديين في سوريا، في ظل وجود «جبهة النصرة»، التي فرضت نفسها كرأس حربة للتمرد «الجهادي» لا بل كمنافس حقيقي لتنظيم «داعش»، بعد اجتذابها أو سيطرتها على الكثير من المجموعات الاسلامية الأخرى، أبرزها على الإطلاق تنظيم «أحرار الشام» المحسوب على «الإخوان المسلمين».
من بين السيناريوهات المطروحة، ان تستقطب «جبهة النصرة» الكثير من المقاتلين المهزومين مع «داعش»، واستفادة «القاعدة» من الحاضنة الشعبية التي يتمتع بها تنظيم أبي بكر البغدادي، مع امكانية احتواء او ضرب المنظمات «الجهادية» الأخرى عبر الترويج في صفوف «الجهاديين» لاستراتيجيتها البعيدة الأمد، والمتمثلة بتحويل المناطق الخاضعة لسيطرتها الى امارة على شكل «دولة ذات سيادة».
تمرّد ديبلوماسي
تواجه السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس الأميركي باراك أوباما انتقادات متواصلة، فقد وصف بعض الكتاب إدارة أوباما بالضعيفة التي لا تستطيع وضع حد للهجمات الإرهابية التي تقتل الأميركيين في بلادهم، فيما يأخذ عليها آخرون «تذبذبها» إزاء الملف السوري.
لكن الانتقادات لم تعد تقتصر على الكتاب والصحفيين، ففي كانون الأول (ديسمبر) الماضي نشر الكاتب الأميركي الشهير سيمور هيرش تحقيقاً استقصائياً مبنياً على شهادات من الاستخبارات العسكرية الأميركية، يشير فيه الى معارضة كبيرة للخيارات التي اتخذها الرئيس الاميركي ازاء سوريا، ولا سيما تركيزه على فكرة «دعم المعارضة المعتدلة»، وهو ما قاد بطبيعة الحال الى اشتداد عود التنظيمات المتشددة، مثل «داعش» و«النصرة».
وفي العام 2014 قدم وزير الدفاع، ليون بانيتا، استقالته والسبب كان ما وصفه بـ«التردد الأميركي حيال ما يجري في سوريا»، خاصة بعد المزاعم باستخدام الجيش السوري للأسلحة الكيميائية في الغوطة الشرقية.
ومن أشد منتقدي إدارة أوباما للملف السوري السفير الاميركي السابق في سوريا روبرت فورد، الذي تقدم ايضاً باستقالته في العام 2014، حين اعتبر ان ابتعاد إدارة أوباما عن مقاربة حقيقية للأزمة في سوريا، ساعدت في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه.
آخر فصول الانتقادات الأميركية لسياسات اوباما اتت هذه المرة من وزارة الخارجية، حيث وقع أكثر من 50 ديبلوماسياً مذكرة افصحوا فيها عن معارضتهم للسياسات الحالية ازاء سوريا، مطالبين بعمل عسكري مباشر.
الملفت للانتباه ان وزير الخارجية الأميركي جون كيري حاول التعامل بإيجابية مع رسالة الديبلوماسيين، إذ قال للصحافيين، خلال زيارته للنروج: «اعتقد أن تلك الرسالة مهمة للغاية، وانا احترم هذه الآلية جداً، ومن المرجح ان ألتقي بهم -الديبلوماسيين المعترضين-، أو أن احظى بفرصة للحديث إليهم بعد عودتنا»، وحين عاد الى واشنطن، بدا كأنه يدعم آراء الديبلوماسيين، حين قال، رداً على سؤال حول ما إذا كان قد قرأ العريضة الديبلوماسية: «نعم. انها جيدة جدا. سألتقيهم».
بعد اللقاء، الأربعاء الماضي، بقي كيري مواليا لأوباما في سياسته بشأن الازمة السورية المستمرة منذ خمس سنوات، ويسعى في هذا السياق الى تطبيق خطة اميركية روسية مشتركة لدفع الحكومة السورية وفصائل المعارضة الى التفاوض.
تطهير الفلوجة مستمر
أعلن قائد عمليات تحرير الفلوجة عبد الوهاب الساعدي، الخميس الماضي، أنّ «القوّات العراقية استعادت السيطرة على أكثر من ثمانين في المئة من المدينة من أيدي الإرهابيّين».
وقال، خلال تجواله في الأحياء الواقعة شمال المدينة، «بالنسبة لأعداد الإرهابيّين لم يبقَ سوى عشرة بالمئة منهم، أو حتّى خمسة بالمئة»، متوعّداً بقتلهم.
وشدّد السّاعدي على أنّ عمليّات الفلّوجة «تسير بوتيرة مدروسة، وتتّجه لإكمال جميع صفحاتها»، معتبراً أنّها «من أنظف المعارك التي تخوضها الجيوش العالمية بالنظر للأضرار الطفيفة التي لحقت بالمدينة، والتي تكاد لا تُذكر وفق المنظور العسكري».
وأوضح أنّ المنطقة الّتي تشهد قتالاً هي حيّ الجولان الواقع شمال غرب المدينة التي تبعد خمسين كيلومتراً غرب بغداد.
Leave a Reply