فاطمة الزين هاشم
عندما تتراكم غيوم الحاضر ملبّدة الأجواء المحيطة بالإنسان، وتتكاثف الهموم سواء على الصعيد الشخصي أو الأسروي أو على صعيد الوطن الأم، والهجمات المتلاحقة من السياسات العدوانيّة التي لا تجلب سوى الخراب والدمار والقتل التي يعاني من نتائجها المحزنة أهلنا هناك، فتنعكس على ذواتنا مخلّفة حالة من القرف والسأم من استقبال الحياة، لذلك فإنّ من جملة ما يؤكّده علماء النفس فـي مجابهة مثل هذه الحالات، هو الترويح عن النفس لا بمعنى الهروب من الواقع، وإنّما بمعنى تخفـيف حدّة ضغط تلك الهموم، لذلك قرّرت أن أصطحبكم معي فـي جولة من الإستذكارات الظريفة، علّها تسرّي عنكم بعض الهموم، ومن جميل الصدف أن يترافق ذلك مع ما طلبته منّي ابنتي الصغرى فـي أن أكتب عمّا يضفـي جوّاً من المسرّة حسبما اتفقت مع رفاقها فـي (بيت الأمل) إذ استقبلوا موضوعاً من هذا القبيل سبق وأن تناولته فـي إحدى مقالاتي السابقة بالإرتياح، وترك فـي نفوسهم أثراً طيّباً حيث استساغوا الطرافةَ فـيه، ونزولاً عند هذه الرغبة الغالية على قلبي، ولكي أدخل الفرحة إلى قلوب روّاد (بيت الأمل) فأكرّس الأمل فـي نفوسهم، سأتناول بعض الطرائف التي صادفتني فـي الماضي على أرباض ضيعتي الجميلة، تلك الوادعة المرتمية فـي أحضان جبلٍ مرصّع بالملّول والسنديان، تحيطها الأشجار الباسقة من كلّ جانب، ولكي أفتح شهيّتكم لا بدّ من ذكر أشجار العنب والتين والخوخ والتفّاح والمشمش وأنواع أخرى، ناهيك عن روعة بناء بيوتها الأنيقة، تزيّن سطوحها تيجان القرميد الأحمر، وحواليها تنتشر الحدائق الغنّاء، أمّا عن كرم أهلها فهو أسطورة بين العجائب، يتحدّث عنه كلّ من زارها باعتزاز وانبهار، حيث يتجنّد الجميع لاستضافة القادمين إلى البلدة، وكأنّك حين تزورهم سرعان ما تجد نفسك واحداً منهم..إنّها (عين التينة البقاعيّة).
كل ذلك يسترجع الماضي الجميل بقوّة، عندما كانت العائلة تلتفّ حول صحن واحد لتناول الطعام، ربّما ليغيظ عصرنا الذي نحياه اليوم بلا طعم، عصر الهامبرغر والسوشي وولائم الأعراس المكلفة التي تنتهي بعد تخمة (المعازيم) بأنواع الطعام التي لا تحصى، وملء الكروش، بشتم أهل الفرح سواءً قصّروا أم خرجوا عن دائرة التقصير.
ومن الجدير بالذكر أنّ الأفراح فـي الماضي كانت تقام فـي منزل العريس ولمدّة ثلاثة أيّام، وكانت النسوة يقمن بطهي الطعام المصنوع من الفاصوليا والرز والكبّة فقط، وكانت (الشيف) فـي بلدتنا فـي ذلك الوقت هي الحاجّة (علويّة) رحمها الله، حيث تمسك بإحدى يديها، الملعقة الكبيرة التي يتجاوز طولها الذراع وتعطي الأوامر لمن حواليها من فريق العمل المكوّن من النسوة عادةً من دون الرجال، وتدير الأمور كما تريد من أجل أن يتمّ طهي الطعام وفق الأصول وقمّة الذوق، والويل لمن تخالف أوامرها حيث ملعة الخشب الغليظة جاهزة لتأخذ نصيبها من علقتها، وكلّ ذلك كان يجري بظرافة فطريّة وبخفّة دم انسابيّة.
كانت تلك الحاجّة تتمتّع بقوّة شخصيّة ظاهرة، ووجهٍ جميل يخيّل للناظر إليها أنّها ما زالت تنعم فـي ريعان الشباب رغم بلوغها الكبر الطاعن فـي السنين، سألتها فـي إحدى المرّات: «ماذا تضعين على وجهك حتّى يبدو بهذا القدر من الجمال والحمرة الطبيعيّة؟» كان عمري يوم ذاك لا يتجاوز السادسة عشر، نظرت إليَّ نظرة استغراب وحيرة، ثمّ ضحكت وقالت: «أتريدين أن يصبح وجهك مثل وجهي؟» فأجبتها «نعم»، عندها قالت: «اذهبي إلى عين البلدة واجلبي بعض (القُرَّيس) وادعكي به وجهك فـيصبح مثل وجهي»، ولعلم القارئ فإنّ (القرّيس) هو نوع من النباتات تعيش قرب سواقي المياه تؤلم يد من يلمسها، لم أكذّب الخبر، سارعت إلى جلب كمّية من تلك النبتة ودعكت بها وجهي، وبعد دقائق حين أخذ (القرّيس) مفعوله، رحت أصرخ وسط الدار، إذ أصبح وجهي قطعة حمراء كأنّها مصبوغة بعصير الرمّان، وأخذت الحكّة تنهش وجهي وجسدي، تنادت إليّ والدتي على وقع صراخي لتفاجأ بمنظر وجهي الغريب، فسارعت فـي طلب تلك السيّدة التي هي الأخرى سرعان ما عجّلت بالحضور، حيث أخذت تضحك قائلة لي: «لقد أصبح وجهك الآن أحمرَ، ألا تعرفـين المثل الذي يقول (الغُوه بدّو قوه والرقص بدّو حَنجلة؟) خرج المثل من بين ضحكاتها المتواصلة غير عابئة بقوّة الألم الذي كنت أعانيه بحيث لم أنسه إلى هذه اللحظة.
Leave a Reply