فاطمة الزين هاشم
فـي مقالتي السابقة تناولت طرفةً ممّا مرّ بي وراء نافذة الماضي الجميل، وها أنّي أبقيتها مفتوحةً لأستلّ منها ما يُسعِف تكملة الموضوع، حيث أستعيد مشهد ذلك العريس فـي ضيعتنا، حيث أراد الزواج من إحدى قريباته التي كان اهتمامها ينصبّ فـي ذلك الوقت على العناية بهندامها وحسن مظهرها، بأضعاف ما هو عليه فـي ذلك، كونها عملت فـي المدينة لفترة فأخذت منها الإهتمام الزائد فـي اختيار ما يناسبها من هندام، فتعلّمت كيف تلبس بما يلائم حياة التمدّن، حتّى بدا عليها التغيير فـي شكلها، فأعجبته وحاول التقرّب منها شيئاً فشيئاً، ذهب إليها سيراً على الأقدام لمسافةٍ ليست بالقريبة، وكان الخريف قد أنذر بانقضاء فصل الصيف وحلول موسم الأمطار التي نال منها نصيبه الوافر، كان وهو يغذّ السير تحت وابل المطر تخامره الظنون بأنّ عروسته المنتظرة ستهتمّ به حال اجتيازه عتبة البيت نتيجة ما آل إليه منظره المبلّل من قمّة شعر رأسه إلى كعب حذائه، فاستقبلته بدون اكتراث، وربّما افتعلت اللامبالاة، حتّى تخيّل أنّ هندامه لم يعجب العروس، فعاد إلى بيته ووقف أمام المرآة فشعرَ بالحاجة إلى الإعتناء بنفسه بعد أن كشفت له نواقصه، فأعاد ترتيب مظهره وذهب إلى منزل أهل العروس، استقبله والدها بترحاب، وحدّدوا يوم الزفاف، وبعد أن اشترت العروس لوازم الفرح، ولم يعد ينقصها سوى الحذاء الأبيض الذي يجب أن يتناسب ولون الفستان، ذهبا معاً إلى سوق الأرمن فـي بيروت، الذي لم يكن مقتصراً على بيع الأحذية فقط، وإنّما على الباعة الأرمن من أصحاب المحلّات أيضاً، وكانوا يتكلّمون العربيّة بلكنة ظاهرة وغير متقنة.
أخذ صاحب المحلّ الأرمني يجرّب لها المقاسات الكبيرة، فلم يعثر لها على حذاء وفق مقاس رجلها، حتّى تعب الرجل وأنهكه طول البحث بين علب الأحذية المتراكمة، فاستغرب من كبر قدمي العروسة إذ لم يمرّ عليه طيلة سنوات عمله فـي هذه المهنة حجم بهذا القدر من المقاس لفتاة، فأدار رأسه إلى العريس وقال له باستغراب: (مقاس 40 غير صالح و41 وكذلك 42، ما فـي فائدة! إنتي تروحي بتجيب صندوق وتخلّي إجر هذا عروس فـيه وبيمخي الحال..يلّه بابا خلاص روحي.)، وحين عاد العروسان وأخبرا أهلهما باقتراح البائع الأرمني، إستلقى الجميع على قفاهم من شدّة الضحك حتّى وصلنا الخبر نحن جيرانهم فأصابتنا عدوى الضحك مثلهم.
ومن الطرائف التي صادفتني أيّام الدراسة، حيث لم تكن فـي البلدة تلك الأيّام، سوى المدرسة الإبتدائيّة، إذ بعدها يتوجّب علينا أن نذهب إلى بلدة مجاورة لبلدتنا بغية مواصلة تعليمنا، وكان علينا أن نغذّ السير على الأقدام للوصول إليها، وكان الطريق يخترق البساتين إذ تمتدّ على جانبيه مثل شريطين أخضرين، فـي إحدى المرّات ونحن عائدون من المدرسة، أخذتنا الرغبة فـي قطف الخوخ من إحدى الشجرات المتدلّية على الطريق العام، فإذا بنا نتفاجأ بصاحب البستان يفترش سجّادته ليصلّي تحت شجرة الخوخ التي اعتدنا على قطف ثمرها من أغصانها، وكان طاعناً فـي السنّ بحيث يؤدّي صلاته جالساً، لعدم قدرته على الوقوف والركوع، وكان بيننا ابن عمّتي وهو شابّ خفـيف الظلّ سريع البديهة فـي إتيان النكتة، أومأ لنا بالجنوح إلى السكوت والسكون، ثمّ راح يقطف الخوخ من الجهة الخلفـيّة ويرمي حبّاتها إلى حضن الرجل المصلّي واحدة تلو الأخرى فـيأكلها ويصيح: (الله أكبر لا إله إلّا الله)، ظانّاً أنّها تتساقط عليه من السماء، بقي قريبي على هذا المنوال حتّى ملأنا جيوبنا من ذلك الخوخ اللذيذ، فهرعنا لائذين بالفرار، هرباً من المكان، حيث لم يعد باستطاعتنا تمالك أنفسنا من شدّة الضحك الذي انتابنا لطرافة المفارقة.
كانت ذكريات جميلة محفوفة بالبراءة والعفويّة وخفّة الظل، وبعيدة عن المنغّصات والهموم، فإذا وجدت أنّها راقت لكم، فأعدكم بالمزيد منها، علّها تخفّف عنكم ضغوط الحياة التي لا تنتهي، وتسرّي عن صدوركم ما يبغي أن يثقلها بالسوداويّة أعداء الحياة.
Leave a Reply