باستثناء واقعة جزين النيابية الخاسرة، هي المرة الأولى التي يخوض فيها الرئيس نبيه بري معركة سياسية تبدو خاسرة من بدايتها. فمنذ الزمن السوري لم يتعود الرجل على الهزائم السياسية ولم يذق طعمها مذ جعله الرئيس حافظ الأسد ضابط إيقاع سياسي لم يفلح الرئيس الراحل رفيق الحريري بتخطيه أو كف يده ولو جزئيا عن أصغر الملفات ولو كانت تتعلق بتلزيم أوتوستراد أو افتتاح مدرسة أو حتى حفر بئر في قرية نائية..
رجل سوريا الأول في لبنان في زمن الحرب الأهلية وبطل معاركها العسكرية في جميع الأوقات، لم يجاريه وليد جنبلاط بالحكمة والدهاء والذكاء، وفي أول صدام عسكري معه في معركة “العلمين” في بيروت الغربية عام 198٦ تراجع وخضع للإرادة السورية التي جعلت من نبيه بري خطا أحمر. لم يفلح “حزب الله” بإبعاده عن الساحة السياسية بالرغم من أنه ربح كل معاركه السياسية بوجه “الأستاذ” ولكنه فشل في ربح أي من معاركه السياسية على مدى ربع قرن من الزمن. في زمن السلم الأهلي منعت سوريا “حزب الله” عام 1996 من خوض الانتخابات النيابية بوجه خصمه اللدود نبيه بري كيلا تضعف حليفها الأول. وكذا عند كل استحقاق نيابي وسياسي واداري لم يستطع “حزب الله” تخطي الرئيس بري بالرغم من أن تفوق الحزب الشعبي كان واضحا للعيان. حتى اقتنع “حزب الله” بأن مثل بري لا يمكن هزيمتهم بسهولة، وخصوصا في السياسة ميدان تفوقه.. إلى أن صدر القرار 1559 وعلى متنه بند نزع سلاح حزب الله، لم يفكر “حزب الله” بالأمر، سريعا انضوى في لقاء عين التينة الذي أطلقه الرئيس نبيه بري للتصدي لمؤتمر البريستول “ذات التسلسل الرقمي” الذي أطلقته المعارضة المسيحية في ذلك الحين بدعم خفي من الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل بعد فترة وجيزة، فوجد “حزب الله” نفسه على فوهة بركان حرب أهلية تلوح معالمها من كل الجهات. فتلاقى “حزب الله” ونبيه بري في منتصف الطريق وشكلا ما عرف بالثنائي الشيعي لإغلاق ساحتهما الشيعية كخطوة أولية على طريق سد الفراغ الذي تركه الانسحاب السوري من لبنان في نيسان 2005، بعدها حمل “حزب الله” الرئيس بري على الراحتين ودافع عنه بحبات العيون ووقف أمام كل محاولات استهدافه وتحجميه حتى علق أحدهم بالقول: “لو لم يكن هناك نبيه بري كان على “حزب الله” اختراعه”.
أطلق طاولة الحوار عام 2006 وقبض على جدول أعمالها وأدار جلساتها بمهارة فائقة وأمسك بزمام اللعبة السياسية حتى وقوع حرب تموز 2006، فكان موقف المقاومة السياسي ما يقوله بري في حضرة الوزيرة “كوندي” ومساعدها ديفيد ولش وأمام السنيورة وأمام وزراء وسفراء الدول. وبعد حرب تموز أطلق طاولة الحوار ولكن بحلة جديدة أسماها “طاولة التشاور”. وظلّ لفترة طويلة محل إجماع لبناني كطرف معتدل مع أنه في صلب قوى “8 آذار” ومن أهم صقورها. وبكل تهذيب ولباقة أقفل أبواب المجلس النيابي أمام انتخاب رئيس جديد للجمهورية بغير نصاب الثلين ووضع المفاتيح في جيبه الصغير حتى تم الاتفاق على انتخاب الرئيس سليمان وتشكيل الحكومة كسلة واحدة في الدوحة.
باختصار إنه نبيه بري نفسه الذي يطرح اليوم تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. طرح مهم وحساس في آن، ولكنه يضرب على صاحبه طوقا ناريا من كل الجهات، حتى من حلفائه المعتبرين. وبالرغم من ان جس النبض الذي عمل بري على اختباره في الفترة السابقة قد أتى بنتائج سلبية، فقد أصر الرئيس بري على عقد مؤتمره الصحفي الأخير في مبنى مجلس النواب للتأكيد على طرحه وشرحه وتقديمه كمبادرة سوف يعمل عليها مع ربطها بتطبيق الطائف واصلاحه، في وقت يظهر الجنرال عون أشد معارضي الطرح، وباستثناء موقف “حزب الله” الضبابي والصامت، يصعب ايجاد من يماشي الرئيس بري في طرحه هذا من كل الطبقة السياسية بدءا من أصغر فصيل الى اكبر حزب على الساحتين السنية والمسيحية. واللافت في الأمر أن اشد معارضة تأتي من اكثر الأحزاب انفتاحا وتنوعا وعلمانية، حزب “التيار الوطني الحر”، وهذا ما لا يمكن تفسيره الا بالخضوع للمزاج الشعبي المسيحي المتخوف دائما من ضياع مكتسبات ولو اصبحت محدودة بعد الطائف، والمتخوف من الغرق في بحر الديموغرافيا الاسلامية، وهي مسألة ربما رأى الجنرال عون فيها، على غير عادته، مكسبا يعيد له بعض ما خسره على المستوى الشعبي.
بالمحصلة، يضيف الرئيس بري الى سجله إحدى العلامات الفارقة والمميزة لإدائه السياسي النوعي في ساحة معظم أبطالها دمى تفتقد للمحركات الذاتية وتفتقد لحرفة الصناعة.. صناعة السياسة!..
Leave a Reply