تقدّمت “النهضة” وتقهقر “اليسار”.. وأحزاب الوسط تُحدّد المسار
عاشت تونس يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أحد أيامها التاريخية، كيف لا والبلاد تشهد لأول مرة في تاريخها ومنذ استقلالها عام 1956، إنتخابات شهد كل المراقبين من الأجانب والمحليّين على أنها كانت حرة وديمقراطية وشفافة، و لم يفوّت التونسيون الفرصة وفي هبّة عامّة خرجوا شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً، وصوّتوا بكثافة تجاوزت الـ90 بالمئة. كان فعلا عرسا إنتخابيا و يوما للمصالحة مع الذات وتكريسا لحق المواطنة. والآن وبعد أن إنجلى غبار “المعركة” الإنتخابية وباحت الصناديق لنا بأسرارها، نتسائل من هم الفائزون ومن هم الخاسرون وماهي طبيعة المرحلة القادمة والمهام الملقاة على عاتق رجال الدولة الجدد والتحديات التي تنتظرهم؟
“النهضة” أولا، و”التكتل” والمؤتمر اليد في اليد
لم تكذّب نتائج الإنتخابات التكهنات التي سبقت هذا الإستحقاق والتي كانت تصب كلها، وإن إختلفت نسب ترجيحات الفوز، في إتجاه واحد هو تقدم حزب “النهضة” الذي حصلت قوائمها على90 مقعداً، أي بنسبة تفوق 41 بالمئة بعيداً عن ملاحقَيها قائمات “حزب المؤتمر من أجل الجمهورية”، وهو تيار وسطي عروبي والذي تحصل على 30 مقعدا، و”حزب التكتل من أجل العمل والحريات”، وهو من أحزاب الوسط كذلك، والذي تحصل بدوره على 21 مقعداً. والتياران يمثلان، سوياً، ٥١ مقعداً من جملة ٢١٧ مقعداً تشكل المجلس الوطني التأسيسي. وبسبب ضعف عدد مقاعد اليسار بمختلف تشكيلاته وقرارها عدم الدخول في أيّ حكومة وحدة وطنية، سيكون “للمؤتمر” و”التكتل” دوراً هاماً في تحديد مسار مستقبل العملية السياسية في تونس. وفي إطار لعبة التحالفات والتوازنات سيكون للحزبين دوراً هاماً في تحديد مسار العملية السياسية في تونس.
العريضة الشعبية تفاجيء الجميع
كان أغلب الملاحظين ينتظر مفاجاة ما من القوائم المستقلة، وبالفعل إستطاعت “قوائم العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية” أن تفاجيء الجميع وتحقق نتائج غير متوقعة فقد إستطاعت أن تفوز في كثير من الدوائر وتحقق 26 مقعداً من مقاعد المجلس التأسيسي في حين لم يكن أكثر المتفائلين يعطيها عُشر ما حصلت عليه. لكن متزعّم هذه القوائم محمد الهاشمي الحامدي أحد وجوه حركة “النهضة” السابقين وصاحب تلفزيون “المستقلة”، والذي لفظته حركة “النهضة” بسبب إتهامه بالتطبيع مع نظام بن علي، ورغم شبهة “الموالاة” وتزعمه قوائم مستقلة غير متجانسة فقد حققت قوائمه فوزاً محترماً، وقد وجه له معارضوه تهم كإستعماله المال لشراء الأصوات أو كونه دُعّم بأصوات قواعد “حزب التجمع” المنحل، أو كونه واجهة لحكومة تنشط من وراء الكواليس. وقد إستطاعت “قوائم العريضة الشعبية” أن تدخل المجلس التأسيسي بنسبة مقاعد محترمة كان من المفترض أن تجعل منها لاعبا مهمّا في تحديد مسار لعبة التحالفات داخل المجلس إلاّ أنّ قرار الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات بإسقاط ست من القوائم الفائزة للعريضة الشعبية، طبقا للفصل 70 والمرسوم 15 من قانون تنظيم الإنتخابات، جعل رئيسها محمد الهاشمي الحامدي يعلن، الخميس الماضي، عن انسحاب “العريضة” من المجلس التأسيسي.
الخاسرون: أحزاب الموالاة واليسار الراديكالي
لم تحقق الأحزاب القديمة والتي كانت موالية لمنظومة الحكم السابق أيّ نتائج تذكر، ويبدو أنّ الشعب التونسي لم يكن مستعدا لإعطائهم فرصة أخرى للتكفير عن تواطئهم السابق، فجاءت نتائج “حركة التجديد” و”الحزب الديمقراطي الوحدوي” و”الحزب الليبيرالي للتقدم” ضعيفة، وكانت خسارتهم منتظرة، أما الاحزاب التي كان ينتظر أن تحقق نسباً هامّة فقد فاجأت الجميع وحققت نسب هزيلة. وهنا نذكر “الحزب التقدمي الديمقراطي” والذي رغم كونه حزباً قديماً فقد كان يصنّف ضمن أحزاب المعارضة المحترمة. ويبدو أنّ مشاركة أحد زعمائه أحمد نجيب الشابي في الحكومة المؤقتة التي عرفت الصعوبات والفشل جعل الناس يحاسبونه كمسؤول فاشل.
أمّا أحزاب اليسار كـ”الوطنيّين الديمقراطيين” و”حزب العمال”، فقد عرفت هي الأخرى ضعفا في النتائج، ويبدو أنّ عودة بعض رموزها إلى إستعمال نفس اللغة “الخشبية” التي كانت سائدة في الجامعات في الثمانينات والتسعينات إبّان إحتدام الصراعات الإيديولوجية بين اليمين واليسار ونعت خصومهم بالرجعية والظلامية وإنخراطهم في صراعات حول الهوية العربية الإسلامية للشعب، من على المنابر وفي الجرائد والتلفزات جعل الناخبين ينفرون من خطاب لم يألفوه، فلم يصوّتوا لصالحهم فكانت نتائجهم دون المأمول.. و”على نفسها جنت براقش”.
المجلس الوطني التأسيسي ، المهام وتحدّيات المستقبل
بعد خروج البلاد من آلية التوافق إلى شرعية الصناديق ستكون للمجلس التأسيسي، الذي قد يستمر وجوده سنة أو أكثر، أولويات عدة، أهمها كتابة دستور للجمهورية الثانية، يُتأمّلُ أن ينطوي على ضمانات تحمي من عودة الديكتاتورية، وكذلك اختيار رئيس للدولة ورئيس للحكومة بصلاحيات محددة، والتحضير لإنتخابات عامّة. ولن يكون أيّ حزب قادر بمفرده، في ظل عدم إمتلاك للأغلبية، تشكيل حكومة، إذ لا بد من توافق ما بين الكتل الكبرى داخل المجلس، ويبدو أنّ ما أفرزته الصناديق سيساعد في إيجاد تحالف سيقود العملية الإنتقالية في البلاد.
ويبدو أنّ حزبي الوسط، “المؤتمر” و”التكتل” سيحددان مسار التحالفات داخل المجلس وهناك مؤشىرات عن وجود رغبة من “حزب النهضة” للتحالف معهما لوجود قواسم مشتركة بين الأحزاب الثلاثة، وعلى الأرجح ستسير الأمور في هذا الإتجاه، نظراً لأنّ الأحزاب الخاسرة أو صاحبة المقاعد القليلة خاصة اليسارية منه رافضة لأيّ نوع من التحالف، حيث صرح أغلب زعمائها أنّهم سيلتزمون بالمعارضة.
وعلى الرغم من أّن حلّ مشكل الأغلبية ممكن بحلف ثلاثي “النهضة” و”المؤتمر” و”التكتل”، فإنّ الأمور ستكون جدّ صعبة ومعقّدة والمهام جسام في ظل واقع إقتصادي عالمي صعب مع تراكم مشاكل الإقتصاد التونسي الذي يعاني من الركود وتنامي البطالة التي بلغت حوالي 700 ألف عاطل، إضافة الى غلاء الأسعار. وإن لم تحسن الحكومة القادمة تسيير الأمور فسيكون فوزها كهدية “ملغومة”، حيث ينقلب عليها الناس وتخسر الإنتخابات العامّة القادمة.
إذا ما العمل؟
رغم بعض التسريبات عن إمكانية ترأُس مصطفى بن جعفر أو المنصف المرزوقي أو الباجي قائد السبسي للدولة وترأس أمين عام النهضة حمادي الجبالي للحكومة، إلا أنّ التداخل بين التشريعي والتنفيذي قد يربك عمل الجهازين لإنّ عملية التأسيس والتسيير مُهمّة صعبة لذلك لا مناص للحكّام الجدد من تعيين حكومة من التكنوقراط أو السياسيين من خارج المجلس، تُسيّر الشأن اليومي للبلاد ليتفرغ أعضاء المجلس التأسيسي لكتابة دستور وتفكيك منظومة الإستبداد بتغيير ميكانيزمات عمل الدولة ببناء مؤسّسات ديمقراطية تقوم على فصل السلطات وضمان جميع الحقوق السياسية والثقافية وحقوق الإنسان دستوريا، لأنّ الديمقريطية لا يمكن أن تكون آلية لتبادل السلطة فقط بل هي كذلك ثقافة القبول بالآخر.
لقد بعث الشعب التونسي برسائل واضحة عن رغبة عارمة في التغيير الديمقراطي، مرة أولى لمّا أعلن ثورته وواجه الرصاص بصدور عارية، ثم مرة ثانية لمّا كان في الموعد ليصوت بكثافة وليقول “لا” للدكتاتورية بعد اليوم، فهل ترقى النخب السياسية إلى مستوى تطلعات الشعب؟
Leave a Reply