حوار مع ابطال المسلسل الأول على الشاشات العربية
ربما هي المبادئ التي افتقدناها، ربما هو التاريخ الجميل بما فيه من انفة ومروءة، أو ربما قتامة الحاضر هو الذي دفع الى الحنين الى ذلك الماضي الجميل.. وربما كلها معا، وقد نصل الليل بالنهار نبحث عن الذي جعل من مسلسل «باب الحارة» ملجأ الملايين من العرب الباحثين عن هوية: لكن من المؤكد ان المسلسل احيا شيئا مدفونا في وعينا كان قد دخل في سباته الشتوي.وحتى اطفأ ظمأ المعرفة باليقين، حملت اسئلتي الى اول بئر معرفة علّني استخرج من الذين «ارتكبوا» ذلك العمل «المحرم» وأحيوا فينا احساس الانتماء الى وطن عربي واحد، اجوبة لي ولآخرين كثيرين، لأحاور ابطال المسلسل انفسهم، عبر برنامجي الاذاعي، لأرى اي نوع من البشر هم اولئك الذين بنوا تلك الحارة المتخيلة، وهل لمثلها، بأهلها، من وجود. هل هناك عقيد حقيقي كأبو شهاب حامي ساحته، يحل ويربط، بكل تلك الهيبة، ام ان هناك حكيم كأبو عصام، كبير، وأصيل، وحنون.
لكن قبل سؤال ابطال المسلسل، عليّ البدء بالبطل الاول، مخرج ذلك العمل الذي احيا عظام المسلسل بعد ان كانت رميما على ورق. فالمخرج قبطان سفينة، يتربع في اعلى قمرية فيها، يرى ما لا يراه بحارته، يعرف كم عقدة بحرية يقطع، وكيف يتفادى جبال الجليد ويعرف، احيانا، كيف يذيبها.سؤال اول اردت كشف غياهبه: كيف تسنى للدراما السورية ازاحة المصرية عن عرشها؟ يبدو المخرج الملا دبلوماسيا، لا يصرح بالانتصار، يقول بأن «الدراما المصرية ترسم النص للمثل، لشخصيات جاهزة، يفصلونها على مقاسه، بينما السورية تقدس الفكرة، ترسم الدور ثم يأتي الممثل ليخدم العمل». ربما الجواب مقنع، لكنني قد ازيد عليه بأن الدراما السورية توزع روعة العمل على الممثلين كلهم، ليكون لأصغر ممثل دور فاعل في مسار القصة كما لأكبرهم. اما المصرية فتقدس الممثل ليكون هو قطب الرحى.ويدافع الملا عن دور المرأة. يرفض اتهام المسلسل بأنه هضم المرأة حقها باظهارها تابعة. يعتبر، وهو محق، بأن للمرأة في ذلك الزمن اكبر دور وهو التفرد في ادارة البيت وتربية العائلة. كانت همومها عائلية وليست فردية كما هي اليوم. اوافقه الرأي. تتدخل الممثلة وفاء موصللي التي ابدعت في دور «فريال خانوم» حتى كادت تقنع المشاهدين بشر الشخصية المركب. تعتبر ان للمرأة في ذلك الزمن اهمية ربما افتقدتها اليوم. كانت المرأة محترمة. فعندما طلق ابو عصام امرأته لم يطردها من المنزل بل طرد نفسه. وعندما رفضت عودته لم يعد.لكن الم يكن للمرأة دور في مقارعة الاحتلال الفرنسي: يجيب الملا بأن «الحارة ما هي الا واقع مفترض ولا تؤرخ بالمعنى التوثيقي لحارة معينة وليس هدفها تقديم تاريخ الشام. رسالة الحارة لم تكن اكثر من مجموعة من الناس يملكون قيما تتحرك عبر تسلسل الاحداث. قيم لم يعد لها من وجود في وقتنا الحاضر عكسنا اهميتها وحركتها في ذلك الزمن». حسنا، اقتنعت بهذا الجواب.سؤال ثان وجهته لموصللي «فريال خانوم» التي كانت هي و«ابوغالب» بياع البليلة اهم عاملين في تصعيد حبكة المسلسل والوصول به الى الذروة: الم تخش موصللي من كره الجمهور لها؟ الم تخف من تضاؤل شعبيتها وهي تؤدي دور اكثر الشخصيات شرا؟ اعترف لها انها استطاعت ان تؤدي الدور بابداع مثير حتى استطاعت ان تقنع المشاهد بالشر الكامن في داخل فريال. تعارضني موصللي. تقول بأن كثير من الشخصيات الصغيرة فعلت فعلها في تكثيف الحبكة الدرامية واذا ازحنا دورها لكانت الحبكة اقل تأثيرا. لكنها توافقني بعض الشيء بأنها خشيت في البداية من تأدية دور الشر. تقول انها حاولت تلطيف الشخصية بادخال بعض الطرافة اليها. الا ان المخرج الملا استطاع ان يلحظ الانحراف في مسار الشخصية ويعيدها الى الدور الاصل الذي رسم لها: «ادركت انني لا يمكنني ان احب نفسي على حساب الشخصية. لكن الاداء الجيد يصل الى جمهور حتى لو كانت شرا فالقدرة تكمن في تأدية الدور. وقد نلت الكثير من الاطراء. وهذا دليل على بعد نظر المخرج ورؤيته لمسار الشخصيات وللانسجام بينها كي لا تتظهّر شخوص المسلسل بصفات لا تعبر عن الدور الذي تؤديه». اوافق موصللي بأن كثيرا من الممثلين بالغي اللطافة يؤدون ادوارا شريرة لا تعكس شخصياتهم الحقيقية. وبالفعل ان دور الشر من اصعب الادوار.سؤال ثالث وجهته الى «معتز» ابن الحكيم، وحبيب امه «سعاد» الذي عشقته كل الصبايا، بطلته البهية، ورجولته المفتقدة في عاصرنا: يخالفني الرأي وائل شرف الذي ادى دور معتز بأن «صفات النخوة لم تختف من الشباب العربي، والدليل هم تفاعلهم مع شخصية معتز، ربما لا مكان لممارستها في الوقت الحاضر، لكنها لو لم تكن متجذرة في وعي الشباب لما لفت انتباهم اداء معتز» ولكن كيف استطاع ان يتقمص الشخصية؟ هل رآها في الواقع؟ يجيب بأن «شخصية معتز ليست بعيدة عن حياتنا المعاصرة» فشرف قد استفاد من شخصية اخ جده فمنه انطلق ليشكل شخصية معتز. يقول «ان هذه الحارات ما زالت موجودة فعلا في الشام وفي حارت كثيرة في العالم العربي، رغم انها في الشام ربما متميزة اكثر». ولكن هل يستطيع المخرج الملا ان يصل الى مستوى الابداع في الجزء الثالث القادم كما هو الجزء الثاني؟ فالوصول الى ذروة النجاح قد يجعل مواصلته اصعب حيث يصبح اشباع رغبة المشاهدين في عمل قادم مهمة محفوفة بالمخاطر. الا ان الملا يعد، بكل ثقة المشاهدين بعمل ان لم يكن افضل فسيكون في نفس المستوى.واذا تابعنا اعمال المخرج لوجدنا بالفعل تصاعدا في الاتقان ومستوى الابداع في كل مسلسلاته ابتداء من مسلسل «الشامية» الى «ليالي الصالحية» وحتى الجزء الاول من «باب الحارة» ومن ثم الجزء الثاني. فمستوى الاداء لم يتراجع بل تكثف وتصاعد وهذا يشير، حقا، ان نجاح الجزء الثاني من «باب الحارة» لم يكن ضربة حظ. وهذا ما يعتقده وفيق الزعيم «ابو حاتم» صاحب قهوة الحارة، الشخصية الرصينة، الذي كتم حزنه على وفاة ابنه وامتلك قدرة على تأدية دور الصديق الوفي الذي لم يسئ الظن بالحكيم ولم تأخذه ظواهر الاحداث عن مساندة «ابو عصام»: يقول «اذا لم يكن النجاح مصادفة فأن الاستمرار بالنجاح متوقع فهذا المشروع حمل هم المستقبل العربي الذي اصبح بلا هوية. هذا المشروع القومي يعمل لتكوين هوية عربية موحدة تستحضر الماضي العريق المشرف. فمخزوننا الثقافي كان رائعا والعودة اليه لا يعني ان نعيد عيشه بكل تفاصيله، بل الاسترشاد به والبناء عليه لتكوين هوية عربية مرتكزة على حسنات الماضي. باب الحارة يمثل هذا المشروع، يرسم حارة افتراضية في فترة معينة تحتوي على شرائح مختلفة، استحضارها لا يعني انكار وجود شرائح اخرى في حارات مجاورة. فالعمل الدرامي لا يمكن ان يحتوي على كل تلك المعطيات كأن يصور الواقع بكل تفاصيله. ولربما في الاجزاء الاخرى القادمة سيكون هناك شرائح جديدة من اهل الحارة كالمثقف والمتعلم والمرأة الفاعلة وسنلقي الضوء على جوانب اخرى من المجتمع».اما «العقيد ابو شهاب» سامر المصري فقد ختم بما لخص سبب نجاح المسلسل: قال «تحتاج الشعوب العربية وقفة عز وكرامة وجدته في باب الحارة. فالشعب العربي يعاني من انهزامات وانكسارات متتالية ويحتاج الى البطولات، بطولات خارجة من ارثه الثقافي ليؤكد ان الهزيمة التي يعيشها هي لحظة طارئة وان غياب الابعاد الاخلاقية عن مجتمعاتنا ليست الا عرضا ممكن ان يرحل ان نحن عرفنا كيف نبني على ماضينا». بالفعل، استطاع مسلسل «باب الحارة» ان يدغدغ تلك الرغبات ويشبع نهما عند المشاهد العربي لرؤية الاخلاق والمروءة تحكم واقعا معاشا على عكس كثير من المسلسلات التي لا تعكس الا مجتمعات تحكمها المصلحة الشخصية والرغبات غير السامية. اجري اللقاء عبر الهاتف من سوريا من اذاعة «صوت الغد» في ميشيغن وبالاشتراك مع «التفزيون العراقي الكلداني والاميركي».
Leave a Reply