تهاجر عن الوطن، وتبتعد عنه الى ما وراء البحار، هربا من صنوف العذاب والتجهيل والإفقار والإضطهاد، وبحثا عن لقمة عيش كريمة وسبل حياة أفضل. فعندما تغلق أبواب الرزق في الوطن، تصبح الهجرة خيارا، وأحيانا الخيار الوحيد أمام الأفراد والعائلات. تهجر مسقط رأسك وبيتك وأحباءك، وترحل الى المجهول، محمل بقليل من الزاد والكثير من الطموحات والأحلام.
يقول الإمام علي: “الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن”. تقذفنا ظروف الحياة الصعبة باتجاه الهجرة، فتصبح بلاد “العم سام” قبلة كثير من الناس في بلداننا العربية. ولكن عندما نحط برحالنا في أميركا، تحديدا، تبهرنا الأشياء في البداية، كإنتظام السير وتوفر البنى التحتية والخدماتية وتوفر الوظائف والأعمال التي تجلب مداخيل تؤمن الحياة الكريمة، وفي أحيان كثيرة الثراء. فترى البعض منهم يصعد السلم تدريجيا بينما ترى الآخر يستعجل الغنى والثراء فيتبع أساليب ملتوية واستغلالية، كما ترى البعض الذي يضطر إلى الاستعانة بالمساعدات الحكومية.
ولكن الجميع في النهاية، أغنياء وفقراء ومتوسطي الحال يعيشون مشاعر الحنين إلى أوطانهم الذي يستبد بالكثيرين منهم ويترك شعورا بالفراغ في قلوبهم، فراغ لا يسده مال ولا جاه ولا نجاح. فراغ يملؤه الوجع الذي تذكيه الذكريات ويلهبه الوجدان المتعطش لرؤية الأوطان. هو الحنين الجارف الى الوطن إذن، الى مسقط الرأس والى الشعور بالإنتماء والأمان. هذا الحنين الى الأرض والى عبق رائحة التراب والى الذكريات الأولى والطفولة البريئة، يوم كانت الحياة أبسط من أن تثقل كاهل أحد..
لكن، يبدو أن الوطن الذي غادرناه ذات يوم وذات حلم، هو وطن لا يصلح للحياة، فترى الكثيرين من المهاجرين العرب يوصون أبناءهم بنقل جثامينهم إلى البلاد التي جاؤوا منها. وهكذا تصير الأوطان مقابر مشتهاة للمغتربين.
من تراب الوطن جئنا والى تراب الوطن نعود
عاش الحاج يوسف 30 عاماً في أميركا وتوفي عن عمر ناهز الـ 64. خبر وفاته نزل كالصاعقة على عائلته وأخوته وأمه الذين كانوا بإنتظار حضوره الى لبنان حيا، ليصل اليها جثة باردة في صندوق خشبي. وتعيش عائلة الحاج يوسف في أميركا، زوجته وأولاده وأحفاده، إلا أن وصيته كانت أن يدفن في ضيعته بجنب قبر والده وأخيه. تقول أخته أم أحمد: “الغربة أخذت أخي شاباً ورمته جثة”، وهذه حرقة قلب كل من يتغرب عن وطنه، فيعيش الأهل معاناة مضاعفة بفقدان الأقرباء والأحباب.
أكثر الأمور صعوبة على أم أحمد كانت حين قامت بتلقين أخيها الشهادة عبر الهاتف.
وأضافت بحزن بالغ: “لقد عاش غريبا ومات غريبا.. لقد آلمني أن يرقد أخي في براد المستشفى لمدة ثلاثة أيام قبل أن تنتهي إجراءات نقل الجثمان إلى ضيعته في الجنوب اللبناني”.
وأشارت “أم أحمد” إلى أن التكلفة المالية لنقل جثمان المتوفى تشكل عبئا على بعض العائلات، ولكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون إهمال ميتهم. وقالت: “يكلف الأمر بين الـ6 آلالاف دولار وحتى العشرة آلالاف دولار لنقل الجثمان مع تكاليف براد المستشفى والمعاملات القانونية هذا عدا عن مراسم التشييع في الضيعة. ولهذا لا يستطيع كل المغتربين تغطية هذه التكلفة في حال وفاة الأقرباء والأحباب فيرضخون للأمر الواقع ويدفنون موتاهم حيث هم”. وشددت: “لا أصدق أن هنالك مغترب يختار أن يدفن في الغربة، فحنيننا الدائم لأرض الوطن يجعلنا نوصي أبناءنا في دفننا حيث ولدنا، فنشعر بأن الوطن هو المكان الوحيد الذي سوف نرقد فيه بسلام الى مثوانا الأخير. فأنا أؤمن أن الإنسان من تراب الوطن جاء والى تراب الوطن يعود”.
إتصلت آمنة، بنت “أم أحمد”، بجدتها “أم يوسف” لتعزيها بمصابها فردت عليها الجدة: “أوصيكِ يا إبنتي أن لا تنسي الوطن وأن تكون وصيتك لأولادك يوما ما أن تدفني في ضيعتك وحيث ترقدين بأمان وسلام. فمهما تغربت يا إبنتي ومهما أخذتك البلاد والمطارح لا بد لك يوما أن تعودي الى الوطن حية أو ميتة. فاعلمي أن الوطن هو جزء من الروح والوجدان، وإن كان في الحياة أو في الممات”.
أميركا وطني
تعتبر فايزة أن كل غريب عن بلاده سوف يعود يوما ما الى أرضه، فالوطن هو أرض الأجداد والأباء والأحباب، وتقول السيدة السبعينية: “لقد قضيت أكثر من نصف عمري في أميركا وأعتبر ان هذه البلد هي وطني أيضا، فحرام أن يأكل الإنسان من صحن ويبصق فيه. في هذه البلاد فتحت لي أبواب الرزق وعملت وتزوجت وخلفت وربيت أولادي وأحفادي وحضنتني الدولة في عجزي وأمنت لي الأمان والطبابة والدواء والمعاش. ولا يمكنني أن أنكر فضل هذا البلد علي”.
وتضيف: “أحب أن أدفن في وطني ولكن فقط إذا إستطاع أولادي تحمل أعباء الكلفة المادية وإن لم يستطيعوا فلا مانع عندي أن أدفن هنا لأنني حينها سأكون جثة هامدة، فلا فرق عندي حقا، لأن الإنسان حسب أعماله يهنىء بمماته أو يعذب وليس حسب المكان الذي يدفن فيه”.
أميركا طبل فارغ
إنتقلت نادية للعيش في أميركا في العام 1980 وتشبه بلاد “العم سام” بالطبل الذي يعلو صوته الصاخب على كل الأصوات في الحفلات والمناسبات. وتقول: “أميركا تماما كالطبل، فوصل صداه وصيته الى كل أرجاء العالم وأصبحت أميركا حلم الكثيرين، ولكننا إذا نزعنا عن الطبل قشرته الخارجية لوجدناه فارغا من الداخل. هذه هي أميركا..”.
وتضيف: “لم تعنِ لي أميركا شيئا منذ أن وطئت أقدامي ترابها، لا شيء هنا حقا فالحياة في هذه البلاد هي “مضيعة للأصول” فأكثر الناس تأتي وتخسر عاداتها وتقاليدها ومبادئها وثم.. أولادها ونسلها، وفي النهاية يحملون في توابيت خشبية الى حيث جاؤوا، وهذه سخرية الحياة”.
تشعر نادية في كل مرة تزور فيها لبنان بأن الروح تدب مجددا في بدنها، فلا شعور بالنسبة لها “يضاهي هذا الشعور”. وتعبر عن ذلك بالقول: “لا يوجد كلمات يمكن أن تصف شعوري عندما أزور وطني، لبنان. وقد كتبت في وصيتي أن أدفن في ضيعتي وأسعى إلى الرحيل عن أميركا قريبا كي لا أشحن منها في صندوق خشبي، إنني أفضل أن أموت هنالك، بين أهلي وناسي، وأن أدفن في ذلك التراب الذي أعشق رائحته”. وتنتقد نادية صديقاتها المسنات اللواتي ينتظرن الموت كي ينقلن الى البلاد التي جئن منها ، وتتساءل لماذا لا يرحلن عن هذه البلاد الى وطنهم ليمتن فيها بدل أن يحملن اليها جثثا في توابيت؟!
أخاف أن أموت هنا!
يتحضر إياد، 60 عاما، للسفر الى مسقط رأسه، الأردن، فبعد أن تقاعد عن العمل لا يجد مبررا في البقاء في أميركا، بالرغم من أن أفراد عائلته يعيشون هنا، ويقول: “عندما كنت معيل العائلة كان لا مفر لي من بقائي في الغربة، أما اليوم فقد كبر أولادي وأصبحوا مسؤولين عن أنفسهم ولا حاجة لي هنا. لقد حان الوقت أن أعود الى وطني وبلادي وأرض أجدادي وآبائي وحيث قضيت طفولتي وأجمل أيام عمري، عندما كان كل شيء ذا طعم”. ويضيف: “لقد إنتظرت هذا اليوم منذ وطئت قدماي أرض أميركا، عرفت أن بقائي هنا سيكون مرحليا ولم أكن يوما سعيدا ولكنني صبرت وتحملت من أجل عائلتي ومن أجل تأمين حياة كريمة لهم”. ولكنه يضيف “لا أنكر فضل أميركا علي ولكنني لم أشعر يوما بأنني أنتمي اليها ولم أشعر يوما بالأمان أو الطمأنينة وكنت أخاف أن أموت هنا. أما اليوم فأنا سعيد جدا لأنني سأعود الى وطني بالرغم من أن عائلتي حزينة وحاول أولادي ردعي عن قراري ولكنني قلت لهم: عندما تكبرون ستعرفون وتفهمون!”.
الوقوع بين نارين
تهجر “أبو جعفر”، 45 عاما، عن العراق في العام 2004، ولجأ الى أميركا ليبدأ حياة جديدة بعيدا عن الحرب وضيق الأحوال المعيشية. وبالرغم من قسوة الحياة اليومية عند العراقيين قبل وبعد الحرب الأميركية على العراق، لايزال “أبو جعفر” يحن الى مسقط رأسه ووطنه ويتمنى لو أن الحياة في وطنه كانت أرحم، فعندها لن يترك بلاده. ويقول: “العراقيون شعب ظلم في أرضه ويظلم عندما يرحل عنها، فمعظم اللاجئين يحملون معاناتهم من أرض وطنهم الى خارجها، فليس من السهل إلغاء مشاهد القتل والموت والتعذيب والتنكيل من ذاكرة الإنسان. ونأتي الى أميركا فارغي الأيدي والجيوب لنبدأ الحياة الجديدة من الصفر وفي كثير من الأحيان لا نعرف كيف نعيش”.
وأضاف: “وبالرغم من ذلك أحن الى وطني وأتمنى أن تهدأ الأوضاع ويعم السلام فيها كي أعود اليها لأقضي ما تبقى لي من العمر بين ربوعها حتى أموت وأدفن في مسقط رأسي. أما اليوم فأنا لا أعرف أين سأدفن وأتمنى أن أدفن في العراق ولكن لا أعرف فيما إذا كانت ستسعفني الأوضاع المادية أو ظروف الحياة، أم لا..”.
إنقلاب الآية..
أما الجيل الشاب من المغتربين، فمعظم ممن ولد هنا لا يهمه فعلاً أين يُدفن، فأميركا هي الوطن الوحيد الذي تعرفوا عليه وربما يتبدل موقفهم عندما يزورون أرض بلادهم أو عندما يتقدمون في السن. الا أن الجيل الشاب الذي ولد في بلاده وإنتقلوا للعيش هنا بعد فترة، فهم دائما متشوقون لزيارة وطنهم الأم ويتبعون آباءهم بالإيمان بضرورة أن يدفنوا في أرض الوطن..
بالنسبة لعلاء، 24 عاما، الحياة في أميركا تناسبه وهو لم يشعر يوما بالحنين الى الوطن كونه ولد وتربى هنا وزار وطنه لبنان أكثر من مرة. وفي كل مرة كان يزور لبنان كان يشعر بالحنين لأميركا. ويقول: “أميركا هي وطني سأحيى وأدفن فيها بالرغم من أن أبي عندما توفي نقلنا جثمانه الى لبنان، وطلبت أمي في وصيتها أن ندفنها في لبنان أيضا. إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لي، أنا سأعيش هنا، ولا أمانع أن أدفن هنا، لأنه المكان الوحيد الذي أنتمي إليه”.
خدني على بلادي
تشعر آيات بالحنين الدائم الى الوطن وينعكس هذا الشعور على حياتها اليومية. فتعتبر أن الغربة التي قضت فيها عشر سنوات حتى الآن أخذت منها أكثر مما أعطتها، وتقول: “في الفترة الأخيرة بدأت أشعر بالحساسية المفرطة تجاه الأشياء، فصرت أبكي عند سماعي أغنية لفيروز أو عند إتصالي مع أصدقائي في الوطن وحتى عند سماعي للأخبار. كم أشعر أنني بعيدة عن ذاتي وعن الوطن الذي تربيت فيه وأعرف كل زاوية من زواياه وأفقه معظم الوجوه. للوجوه في وطني ملامح تختلف عن وجوه الناس هنا، فبرغم القهر والفقر والذل تجدهم يتبسمون ويستمتعون بأبسط الأشياء”. وتضيف: “ولكنني عند زيارتي الأخيرة الى لبنان شعرت بالغربة أيضا في وطني بعد أن إعتدت الحياة هنا. فأنا أعيش أسيرة لوطنين لم أعد أشعر بالانتماء الخالص لأي منهما”. وتسأل آيات نفسها: “أنا ضائعة بين بلدين وعلي أن أعرف أولا أين سأعيش بعدها علي أن أقرر أين سأدفن؟”.
خلاصة
يعتبر الكثيرون، وبينهم عرب أميركيون، أن الجاليات العربية ناكرة للجميل وترفض مفهوم المواطنة، القائم على الولاء للأرض التي يعيش فيها الإنسان ويقضي معظم حياته. فأميركا تمنح هؤلاء حياة كريمة وحقوقا مدنية قد لا يحصلون عليها في وطنهم الأم، ولكنهم مع تقدمهم في السن يزداد حنينهم الجارف الى أرضهم ويشعرون بضرورة العودة الى البلاد التي جاؤوا منها ليرقدوا فيها بسلام.
والحقيقة أن حب الوطن هي فطرة كل الناس، فنحن نولد مفطورين على حب الأرض والشعور بالإنتماء الى المكان الذي نولد ونتربى فيه. وعندما نبتعد عنه، طوعاً زو قصراً، يبدأ الحنين وتزداد وتيرته مع مرور الأيام والسنين. وقد لا يفهم البعض ظاهرة أن يوصي معظم المغتربين أبناءهم أو أقرباءهم أو معارفهم بنقل جثامينهم الى أرض الوطن، الا أن الحنين وحده هو الذي يفسرها.
Leave a Reply