حسن خليفة – «صدى الوطن»
إن الحديث عن سياسة المراقبة الكثيفة التي ينتهجها «مكتب التحقيقات الفدرالي» (أف بي آي) بحق العائلات العربية والمسلمة في أنحاء البلاد لم يعد سراً، بل بات شعوراً راسخاً في هذه المجتمعات، بما فيها منطقة ديربورن التي تضم أكبر كثافة سكانية للعرب الأميركيين.
هذا ما يكشفه العمل الوثائقي للمخرجة الجزائرية الأميركية (فلسطينية الأصل) آسيا بونداوي، تحت عنوان «الشعور بأنك مراقب»، حيث عقد المتحف العربي الأميركي الوطني في ديربورن، الأسبوع الماضي، ندوة لمناقشة الفيلم بمشاركة حقوقيين وأكاديميين تناولوا هواجس التجسس التي يعيشها العرب والمسلمون في الولايات المتحدة.
يضع صنّاع العمل عبر سيناريو بسيط لكن متماسك، عملاً استقصائياً عميقاً لموضوع إشكالي «مسكوت عنه»، في مدينة بريدجفـيو وهي إحدى ضواحي شيكاغو. حيث يعيش قرابة 16471 شخصاً، تشكّل نسبة الأميركيين العرب منهم حوالي 15 بالمئة.
ويحاول العمل الاقتراب مما يشغل هؤلاء، ذوي الأصول الفلسطينية فـي معظمهم والذين يعيشون هاجساً مريباً منذ تسعينيات القرن الماضي بأنهم مراقبون بشكل دائم، لتتكشف أساليب تجسس صادمة تمارس ضدهم من قبل الوكالات الأمنية التي تتسبب ببث الشكوك وانعدام الثقة بين أبناء المجتمع الواحد.
والى جانب بونداوي شارك في الندوة كل من المدير التنفيذي لـ«مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية» (كير-ميشيغن) داود وليد، وأستاذ القانون والحقوق المدنية في جامعة «ديترويت ميرسي» خالد بيضون، وأستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة «وين ستايت» سعيد خان.
الشعور بأنك مراقب
وتطرقت بواندوي التي وصفت مجتمع بريدجفيو بأنه عينة من باقي المجتمعات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة الى قصص من المدينة تظهر العلاقة المتوترة بين العائلات العربية الأميركية ومكتب التحقيقات الفدرالي.
وقالت بونداوي، إن اهتمامها بموضوع التجسس بدأ عندما كانت في الرابعة عشر من عمرها، حين قامت شركة لأجهزة الإنذار من الحرائق، بتركيب عدد أكثر من المعتاد في منزل العائلة التي لاحظت كثرة الأجهزة، فساورتها الشكوك وقامت بنزعها بعد عدة شهور من تركيبها ليتبين أنها كانت تستخدم لأغراض التجسس.
وأضافت أنه بعد تلك الحادثة، تغيرت حياة العائلة -وكذلك جيرانها- إلى الأبد. وهو ما أوحى للشابة الفلسطينية (وهي إعلامية سابقة لدى قناة «الجزيرة أميركا» وحائزة على جوائز صحفية) بصناعة فيلمها الوثائقي بعنوان: الشعور بأنك مراقب. وأكدت بواندوي، أنها ترعرعت في مجتمع كان الجميع فيه تقريباً على يقين بأنهم مراقبون، «كان ذلك من مسلمات الأمور» على حد قولها.
وبعد سنوات، حين قصدت الجامعة لدراسة الصحافة، أدركت من خلال أقرانها الذين ترعرعوا في تسعينيات القرن الماضي أن التجسس من هذا النوع كان أمراً غير طبيعي. وقالت: «هذا ما دفعني للبحث عن أسباب المراقبة، حينها بدأت أتساءل: لماذا يشعر كل شخص في المنطقة التي أعيش فيها بأنه مراقب؟». وبدأت الصحفية تحقيقاً حول الموضوع قادها في النهاية إلى الحصول على معلومات ووثائق تثبت أن المجتمعات، المماثلة العربية والإسلامية في أميركا، تتعرض للمراقبة الكثيفة من قبل الـ«أف بي آي» وذلك منذ بداية التسعينيات، وأن تكتيكات المراقبة قد تطورت عبر السنين، حتى أن بعضها كان صادماً للعديد من الناس.
ومع أنها كانت تعلم أن هذا النوع من المراقبة غير دستوري، إلا أن العائلات المهاجرة ظلت صامتة ولم يحرك الضحايا ساكناً، ومرد ذلك -بحسب بونداوي- إلى أنهم معتادون على هذا النوع من الممارسات من قبل المخابرات التي تحكم الدول العربية بقبضة من حديد.
ولفتت بونداوي إلى أن قوة هذا النوع من الممارسات ينبع من سريتها، «إنهم يعولون على أن يبقى الناس صامتين إزاء تلك الممارسات وأعتقد أن هذا الفيلم يتضمن رسالة مفادها أننا لن نبقى صامتين حيال مراقبتنا وعلينا أن نروي قصصنا بصوت عال».
جمع المعلومات
من ناحيته، قال وليد إن برنامج «مكافحة التطرف العنيف» (سي في إي) -الذي يشرف عليه مكتب التحقيقات الفدرالي ووزارة الأمن الداخلي- هو برنامج يحاول جمع معلومات استخباراتية للمساعدة في وقف الهجمات (الإرهابية) أو التطرف، من خلال تجنيد أعضاء في الجاليات العربية والإسلامية مثل المعلمين والإخصائيين الاجتماعيين ورجال الدين والمختصين في مجال الصحة العقلية، للحصول على المعلومات.
وأضاف وليد أنه في إطار هذا البرنامج تم تشكيل لجان فرعية في مدن بوسطن ومينيابوليس ولوس أنجليس والآن في ديربورن، تحت مسمى «لجان المسؤوليات المشتركة»، لتجنيد المصادر المحلية لجمع معلومات عن السكان الى جانب الاعتماد على المخبرين.
ولفت وليد الى أن الإخصائيين الاجتماعيين ورجال الدين ملزمون من الناحية القانونية بإبلاغ الوكالات الأمنية عن المتطرفين المحتملين، غير أن أكثر ما يثير قلق الحقوقيين بحسب وليد هو وضع العرب والمسلمين تحت المراقبة لمجرد إبدائهم لآراء سياسية تتناقض مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولاسيما بشأن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف أنه في حال تم الإخبار عن شخص لهذا السبب، فمن غير المستبعد أن يجد هذا الشخص اسمه لاحقاً على قوائم الـ«أف بي آي» لـ«حظر الطيران» أو «مراقبة الإرهاب».
واستشهد وليد بما حصل مع شاب عربي أميركي مؤخرا (خليل أبو ريان)، ليبيّن الكيفية التي يدفع بها الـ«أف بي آي» إلى تحريض الأفراد المشبوهين لكي يعبروا عن نواياهم وأفكارهم المتطرفة، من قبل مخبرين يعملون لصالح الوكالة.
وكشف وليد، وهو عضو في مجلس «أئمة ميشيغن» الذي يضم ٣٠ رجل دين يمثلون المراكز الإسلامية في منطقة جنوب شرقي ميشيغن، أن الـ«أف بي آي» يحضر اجتماعات المجلس ويلتقي مع بعض الشيوخ على انفراد للحصول على المعلومات، مؤكداً معارضته لهذه الممارسات.
وأضاف بأن من واجبه كمواطن أميركي أن يبلغ السلطات عن أي تصرفات مشبوهة، ولذلك لا يرى ما يدعو لهذه الأساليب التي وصفها بغير المجدية والمؤذية للمجتمع، غير أن آخرين يعتقدون أن التعاون مع الـ«أف بي آي» مفيد وضروري لأمن المجتمعات ومكافحة جرائم الكراهية.
ودعت بونداوي الجالية الى الحفاظ على علاقة صحية مع السلطات الأمنية تتوافر على شروط الشفافية والمحاسبة.
ومن جانبه، أكد البروفسور خان أن الوكالات الأمنية تضع الجامعات كما المساجد تحت مجهر المراقبة، وغالباً ما تجد المنظمات الطلابية العربية والإسلامية نفسها في دائرة التجسس، وهو ما يجعلهم يشعرون بالتهميش والدونية إضافة الى إحساسهم بأنهم «مشكلة».
في السياق ذاته، قال البروفسور بيضون إن مراقبة العرب والمسلمين لها أيضاً أبعاد خاصة تتعلق بهويتهم العرقية والإثنية والاقتصادية -الاجتماعية.
وأكد أن لبرنامج «مكافحة التطرف العنيف» آثار غير متناسبة على الطبقات العاملة والمجتمعات الفقيرة، مشيراً الى أن ٤٥ بالمئة من المسلمين الأميركيين في البلاد يعيشون عند مستوى خط الفقر أو دونه ما يجعلهم عرضة للمراقبة أكثر.
وقال: «إنك عندما تنظر عن كثب إلى وجوه الضحايا، فسوف تدرك أن شرائح معينة من المجتمع تواجه وطأة برنامج مكافحة التطرف بطريقة أكثر جدية».
مستقبل التجسس
ويعتقد كثيرون أن التجسس على العرب والمسلمين الأميركيين قد بدأ في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبمتبر) 2001. ومع ولادة قانون «باتريوت آكت»، الذي وقعه الرئيس السابق جورج دبليو بوش لمكافحة الأعمال الإهابية.
وخلال إعدادها لفيلمها، اكتشفت بونداوي أن العرب والمسلمين قد تعرضوا للتجسس منذ نهاية الحرب الباردة، حيث بدأت الوكالات الاستخباراتية بالتركيز على خطر إرهاب المتطرفين بعد زوال الخطر الشيوعي في بداية تسعينيات القرن الماضي. وأضافت: منذ ذلك الوقت بدأت الوكالات الفدرالية بالاقتراب من تجمعات العرب والمسلمين، و«من خلال الأبواب الخلفية» عبر تجنيد مخبرين وباعتماد تكتيكات سرية دفعت تلك المجتعمات إلى فقدان الثقة بالأجهزة الأمنية.
وفي الإطار ذاته، قال وليد إن التجسس بدأ تاريخيا ضد المسلمين السود مع ظهور حركات السود الإسلامية مثل «أمة الإسلام» و«الفهود السود» وأن التجسس لم يتوقف منذ ذلك الحين.
بدوره، أكد البروفسور خان أن التجسس لا ينحصر فقط بالعرب والمسلمين، معتبراً أن استهدافهم ليس إلا خطوة أولى لنظام تجسسي أكثر شمولية في عصر التكنولوجيا، مرجحاً مزيداً من الانخراط من شركات الانترنت والتواصل الاجتماعي في عمليات المراقبة، مع تبلور دورها الريادي في تحديد توجهات الأفراد والمجتمعات.
Leave a Reply