بيروت – منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تم تغييب فرضية أن تكون إسرائيل وراء الجريمة، وقد وجهت الاتهامات الى سوريا وحلفائها في لبنان، تحت ذريعة أن الرئيس الحريري رفض التمديد للرئيس إميل لحود، وسمع من الرئيس السوري بشار الأسد أثناء لقائه به في دمشق تهديداً بـ”تكسير لبنان على رأسه ورأس حليفه وليد جنبلاط”، وهو أبلغ ما حصل معه الى جهات عربية ودولية وأصدقاء له في العالم، حيث تزامن ذلك مع قرار أعدته أميركا وفرنسا صدر عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559، يرفض تعديل الدستور اللبناني، ويطالب سوريا بسحب قواتها من لبنان، و”حزب الله” تسليم سلاحه أو تنزعه الحكومة اللبنانية.
لقد كان القرار الدولي واضحاً، وهو الضغط على سوريا للتسليم بالمشروع الأميركي – الإسرائيلي للمنطقة، والعمل من ضمنه لوقف دعمها للمقاومة، والانخراط في “الشرق الأوسط الكبير”، لكن القيادة السورية لم تلب المطالب الأميركية، فكان لا بد من حدث كبير يفرض عليها الخروج من لبنان، وإضعاف دورها في المنطقة، وتشكيل لجنة تحقيق دولية، تكون سيفاً مسلطاً على سوريا، للرضوخ للشروط الأميركية، التي وضعها وزير الخارجية كولن باول على طاولة الرئيس الأسد، الذي صمد بوجهها، ولم تتمكن عملية اغتيال الحريري، من أن تزحزح سوريا عن ثوابتها، بالرغم من الحصار الذي فرض عليها، والعقوبات التي صدرت ضدها، والتلويح بتغيير نظامها، لكن كل ذلك لم يبدل بالموقف السوري المقاوم، واستمرت سوريا بتأييدها واحتضانها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وهو ما فرض على أميركا أن تغير في سياسة إدارتها، بعد أن فشل مشروع جورج بوش في العراق، وانهزم في لبنان، بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006، وصمود المعارضة اللبنانية، وقلبها في 7 أيار 2008 لموازين القوى الداخلية لصالحها، وعادت سوريا رقماً صعباً في معادلات المنطقة، وبدأ الحوار معها، واعترفت الإدارة الأميركية بدورها وقالت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي أن الحل يمر بسوريا، وقد عاد الجميع إليها من دول أجنبية وعربية، وتصالحت السعودية معها، وجاء الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إليها، وذهب الرئيس الأسد الى باريس، واعترف لها أصحاب القرار الدولي والإقليمي والعربي وحتى اللبناني، بتأثير سوريا في لبنان، فانخفض خطاب التصعيد ضدها من قبل طرفين رئيسيين في “14 آذار”، هما النائب وليد جنبلاط الذي أعاد تموضعه مع سوريا والمقاومة، والرئيس سعد الحريري الذي سلم بأنه لا يمكن أن يكون رئيس حكومة لبنان ويحكم وهو على خلاف مع القيادة السورية، فتصالح مع الرئيس الأسد تحت سقف المصالحة السورية-السعودية.
بعد إخراج سوريا من الاتهام باغتيال الرئيس الحريري، وإسقاط نظرية تورط النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك في الجريمة وإطلاق سراح الضباط اللبنانيين الأربعة مع مدنيين آخرين وعدم توقيف أي مسؤول أمني أو سياسي سوري، حيث فشلت أميركا وإسرائيل وحلفائها في لبنان من قوى “14 آذار”، في إثبات بالأدلة والقرائن والوقائع الاتهام السياسي ضد سوريا ونظامها، بدأ الإعداد ومنذ العام 2008، الى وضع سيناريو لتوجيه الاتهام نحو “حزب الله”، الذي لم ينجُ حتى في الأيام الأولى للاغتيال، من أن تسدد نحوه السهام بالإشارة الى أن تفخيخ السيارات كان يحصل في الضاحية الجنوبية، كما تم التلميح أكثر من مرة الى دور للشهيد عماد مغنية، في أعمال الاغتيال والتفجير، وحاول البعض الربط بين انسحاب وزراء حركة “أمل” و”حزب الله” من الحكومة واعتكافهم في نهاية العام 2005 عندما طرح موضوع المحكمة الدولية على مجلس الوزراء، ثم الاستقالة من الحكومة واعتصام المعارضة وإقفال مجلس النواب بوجه الحكومة غير الشرعية، كل ذلك من أجل التهرب من إقرار المحكمة الدولية.
لكن “حزب الله” كان يخشى التسييس الذي ظهر في لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس وتركيب شهود الزور، وأن دم الرئيس الحريري بدأ يستغل لأهداف سياسية سواء لتمكين قوى “14 آذار” من الإمساك بالسلطة والتفرد بالقرار، والعمل على نزع سلاح المقاومة، بعد أن نجح المخططون لاغتيال الحريري في خروج القوات السورية من لبنان، وهو أحد بنود القرار 1559، وبقي سلاح المقاومة الذي فشلت إسرائيل أن تأخذه بالقوة العسكرية، كما لم يستطع أطراف الداخل اللبناني من حلفاء أميركا، أن ينالوا منه بتشويه صورة المقاومة باستدراج سلاحها الى الداخل عبر قرار الحكومة في 5 أيار 2008 الذي طالب بنزع شبكة اتصالات المقاومة، وقد استخدم للدفاع عن المقاومة.
فانعدام الثقة بالتحقيق الدولي، وإسقاط التهم التي سيقت ضد سوريا وحلفائها في لبنان، دفع بالأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، الى التصدي لمحاولة تشويه صورة المقاومة، التي رصدت الإدارة الأميركية السابقة 500 مليون دولار في لبنان من أجل هذه المهمة، دفعت الى أحزاب وتيارات سياسية وشخصيات إعلامية، كما أعلن جيفري فيلتمان، حيث لاحظ “حزب الله” أن ثمة محاولة من أجل فبركة روايات بدأت تنشرها صحف أجنبية وعربية، توجه الاتهام الى عناصر منه، على أنهم متورطون في اغتيال الحريري، وقد أبلغ الرئيس سعد الحريري بذلك الى السيد نصر الله أثناء لقاء بينهما، وأن ما صدر في مجلة “دير شبيغل” الألمانية يمثل جانباً أساسياً من القرار الظني، وهو ما رفضه السيد نصرالله، ولم يقبل أن ينسب الى أعضاء في “حزب الله” على أنها عناصر غير منضبطة قامت بالجريمة دون علم القيادة.
وبدأت تتجمع لدى الأمين العام لـ”حزب الله” معلومات من أن إسرائيل دخلت على خط تركيب اتهام ضد المقاومة، وعبّر صراحة عن ذلك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غابي اشكنازي، الذي أورد في اتهامه ما كتبته “دير شبيغل” و”الفيغارو” و”لوموند” و”السياسة” الكويتية، حيث بدأت ترسخ عند أطراف لبنانية تبدأ من آل الحريري الى تيارات سياسية، تورط “حزب الله” أو عناصر منه بالاغتيال، وهو ما دحضه نصرالله في إطلالاته الإعلامية عندما رفض أن يتهم ولو نصف عنصر من الحزب بالجريمة التي ليست من قيم ومناقب من دفع الدم دفاعاً عن السيادة والكرامة وحرر الأراضي اللبنانية المحتلة من الجيش الإسرائيلي.
أمام التسريبات الإعلامية والمواقف السياسية التي قامت بها أطراف أميركية وأخرى إسرائيلية، ولاقتها جهات لبنانية وأنظمة عربية، تحمّل “حزب الله” مسؤولية اغتيال الحريري، حزم أمينه العام قراره، وأعلن تصديه للتشويه المنظم الذي بدأ قبل سنوات، حيث الاحتمال الوحيد الذي وضع حول من يقف وراء الجريمة، كان سوريا والنظام الأمني اللبناني السوري المشترك في المرحلة الأولى، وفق تقرير ميليس الذي ثبت عدم صدقيته، وقد تلقى معلومات مغلوطة من شخصيات لبنانية، عمل من خلالها باعتماده على شهود الزور كان أبرزهم محمد زهير الصديق الذي أسقطت المحكمة شهادته، كما أن المحقق سيرج برامرتز، وضع فرضيات في الاغتيال، وتحدث عن أسباب سياسية واقتصادية وعقائدية وشخصية، وقد رفع من مستوى التحقيق، وركز على أن الجريمة نفذها انتحاري، كان ميليس أقر به، وأن التفجير حصل فوق الأرض وليس تحتها، وأنه من منطقة صحراوية نائية.
هذه الفرضية في التحقيق، الى جانب أن يكون القرار 1559 قد ساهم في الاغتيال، بعد أن حذر الرئيس الحريري من خطورته، وقد يخلق فتنة في لبنان، ورفض أن يأخذ به أو يقبل بتنفيذ ما ورد في بنوده، وتحديداً نزع سلاح المقاومة، حيث أبلغ السيد نصرالله برفضه للقرار، وأنه يرفض النيل من المقاومة وسلاحها، وقد أقر النائب وليد جنبلاط مؤخراً، أن تنفيذ هذا القرار، كان يلزمه حدث كبير، فكان اغتيال الحريري الذي عجّل بالانسحاب السوري، لكنه وقف عند نزع سلاح المقاومة، الذي لاقى رفضاً لبنانياً.
فمع كل التطورات التي حصلت منذ 14 شباط 2005، في انكشاف الشهود الزور، والتدخل الإسرائيلي في التحقيق، وسقوط الاتهامات السياسية، فإن السيد نصر الله، سعى الى أن يقدم قرائن قد توصل الى تورط إسرائيل بالاغتيال، وهي استبعدت من كل الاتهامات والتحقيقات، وأن أكثر من استبعدها هم أطراف “14 آذار”، الذين لعبوا على تزوير الحقيقة، واستدعاء الشهود الزور وفبركة روايات.
وجاء المؤتمر الصحافي للسيد نصر الله، المعزز بالوقائع والقرائن واعترافات عملاء، والمسح الجوي الإسرائيلي لأماكن من لبنان، وتحديداً تلك التي كان يقصدها الرئيس الحريري، لتضع أمام التحقيق الدولي فرضية أن تكون إسرائيل متورطة في الاغتيال، والتي مع غيرها من الدول لم تتعاون مع التحقيق، الذي بقيت خارجه، بالرغم من أن عملاءها اعترفوا بتنفيذ عدد من عمليات الاغتيال بينها جريمة قتل الأخوين المجذوب في صيدا.
ونجح الأمين العام لـ”حزب الله” بتقديم توثيق بالصوت والصورة، عن احتمال أن تكون إسرائيل متورطة في الاغتيال، وهي الفرضية التي لم يعمل لها التحقيق الدولي، الذي فقد الثقة به، وتبيّن أنه أنشئ لغرض النيل من الأنظمة والحركات والمنظمات الرافضة الخضوع للهيمنة الأميركية وللسيطرة الإسرائيلية.
وقصد السيد نصر الله من كشفه للمستندات والوثائق والوقائع، أن يوجه رسالة الى اللبنانيين، أن لا يغفلوا عن الدور الإسرائيلي في الجريمة التي كان الهدف منها، هو إشعال صراع مذهبي كان بدأ مع الاحتلال الأميركي للعراق، الذي أجج الفتنة السنية–الشيعية، وهو ما أراد أن يفعله في لبنان لإضعاف المقاومة فيه وضربها وجرها الى الاستسلام أمام إسرائيل، لتقسيم المنطقة عبر خارطة “الشرق الأوسط” لتبقى إسرائيل هي الدولة الأقوى والقطب الذي تدور الدول الأخرى في فلكه، وقد أفشلته المقاومة بصمودها وانتصارها في تموز 2006 ضد إسرائيل، وفي إسقاط المشروع الأميركي في أيار 2008، وهو ما اعترف به جنبلاط الذي قرر الانتقال الى الموقع الطبيعي له مع سوريا والمقاومة، وبدأ يعمل على تقويض التحقيق الدولي الذي يعرف هو أكثر من غيره أنه مسيّس، لأنه يملك كل المعلومات عن من فبرك وأعدّ شهود الزور.
فالمعلومات الموثقة التي قدمها السيد نصر الله، لاقت صداها عند اللبنانيين بأن تكون إسرائيل لها علاقة باغتيال الحريري، وهي المشهود لها بتاريخها الإجرامي، وكان آخر ما ارتكبته اغتيال القيادي في “حماس” محمود المبحوح في دبي، الى الجريمة التي ارتكبت بحق ركاب سفينة الحرية الذين كانوا في مهمة إنسانية لفك الحصار عن غزة ونقل المساعدات الغذائية والطبية لسكانها.
مع وثائق السيد نصر الله، بدأ التحقيق الجدي، عن المجرم ومن يقف وراءه، وأن المستندات التي عرضها، ستظهر الحقيقة في اغتيال الحريري، يبقى على ولي الدم رئيس الحكومة سعد الحريري، أن يلاقي الأمين العام لـ”حزب الله”، ويتعاون معه حول ما قدمه من شهادات حية اعترف بها عملاء لإسرائيل، أنهم زرعوا عبوات ونقلوا متفجرات واستقبلوا ضباطاً إسرائيليين، وقاموا بأعمال إجرامية.
فبمثل هذه الأدلة، يمكن الوصول الى الحقيقة، لا بالشهود الزور، الذين ضيّعوها، وتبيّن أنها ملفقة، حيث استدرجوا من قبل مشغليهم لاتهام سوريا وقيادتها، فسقطت كل الشهادات، وهم يكرّرون التجربة مع “حزب الله”.
الكرة في ملعب ولي الدم فهل يُقدم…
Leave a Reply