ديربورن – خاص “صدى الوطن”
ربما يختلف الحال كوننا نعيش في مجتمع غربي انعكست بعضاً من ثقافته العلمية المتحضرة على فهمنا وتقديرنا للطب النفسي ومدى اهميته أحياناً في مساعدة الكثيرين على تخطي مشاكلهم النفسية والعاطفية. الا أن الحال ليس كما يبدو. فيبقى التكتم سيد الموقف، ويبقى الجنون وصمة عار تلحق بالمريض النفسي في معظم الاحيان.
في مجتمع التناقضات، مجتمع العادات والتقاليد من جهة، والدين من جهة اخرى. تتجذر أفكار مكتسبة على مر السنين يصعب على الوعي الجماعي تخطيها. فيجد المريض النفسي نفسه أمام تحديات لم تكن في الحسبان، قد تزيد الحال تعقيداً.
من منا لم يعانِ يوماً من مشاكل نفسية أثرت سلباً على جوانب حياتنا الأسرية او المهنية او الاجتماعية؟ البعض يتخطاها دون الوقوع في دائرة المرض، والبعض الآخر تستحكم عليه الآلام وتخرج عن دائرة السيطرة مما يستدعي حينها مساعدة خارجية من قبل الأطباء النفسيين. ربما تخيفنا فكرة أن المرض غير ملموس، كوجع المعدة الذي تراجع فيه طبيب اخصائي في أمراض المعدة. الا أنه في مجتمعنا، أكثر ما يرعب المريض النفسي هي نظرة المجتمع السلبية التي قد تجعله ينصاع لرفض المساعدة الطبية وتدخله في متاهات التشتت والنبذ والسرية.
ليال: تجرح معصميها
لتفرج عن ألم عاطفي عميق
كانت مجرد فكرة سمعتها في برنامج حواري، عبرت فيها احدى الفتيات عن ألمها الداخلي الذي يدفعها الى جرح معصميها. فالألم الخارجي يجعلها تتناسى الألم الداخلي ولو لقليل من الوقت. “فلماذا لا أجربها بنفسي” قالت ليال شارحة كيف “بدأت قصتي مع ادماني على ايذاء نفسي”، وتضيف ليال “يختلف عمق الجرح باختلاف احساسي بالوجع الداخلي في كل ليلة. لم اكن اظن يوماً انني قادرة على ايذاء نفسي بهذه الطريقة”.
كانت ليال تعيش ضغوطاً نفسية، من أبٍ يتعدى على أمها كلامياً معظم الوقت ومن صدمة اجتماعية تلقتها بعد انتقالهم من اميركا للعيش في لبنان. ليعودوا بعدها للعيش هنا بعد تفاقم سوء حالتها النفسية واكتشاف أمها بالجروح التي تعتلي معصميها وعدم مقدرتها على العلاج في لبنان خصوصاً بعد اعتبار أقاربها لها بأنها “مجنونة”.
ليال فتاة في الثامنة عشر من العمر، متوسطة القامة، وجهها بيضاوي وعيناها عسليتان. تشعر الوجع بكلماتها التي تسترسل بها دون خوف. تقول ليال “قصدت طبيبة نفسية السنة الماضية، عبر مركز اجتماعي في ديربورن، الا أن العلاج لم يستمر طويلاً. لم أستطع الوثوق بتلك الطبيبة التي شعرت أن ثقافتها بدائية رغم انها امرأة متعلمة. وربما كان حكمي عليها ظالماً بسبب خوفي أن يعلم أحد أنني أخضع للعلاج خصوصاً كونها عربية الأصول”.
وتضيف ليال “أبي يعتبرني مجنونة ومختلة نفسياً، الا ان امي تساعدني وتحضنني في معظم الاوقات. أما أنا فما عاد يهمني أحد، أرتدي قناعاً أظهر به للجميع أنني سعيدة لكنني ضمنياً لا زلت أتألم”.
نظرة المجتمع السلبية
للطب النفسي والمريض النفسي
تعتبر الامراض النفسية كغيرها من الامراض العضوية التي تستوجب العلاج. ومن المنظار الطبي يعاملان على أنهما امراض عادية لكنها تختلف في سبل العلاج. الا ان نظرة المجتمع، خاصة العربية، تحط من أهمية العلاج النفسي احياناً وتسقط أحكاماً سلبية بحق المرضى. لدرجة ان يفضل البعض اللجوء الى المشعوذين والسحرة بدلاً من اللجوء الى الطبيب النفسي، خوفاً من نظرة المجتمع والاسقاطات المؤذية التي قد تصدر بحقهم. كما تجد وسائل الاعلام العربية التي من المفترض ان ترفع نسبة الوعي في الاوساط الاجتماعية تحط بكل ثقلها على الطبيب النفسي ومرضاه حين تتناولهم في الافلام والمسلسلات. فيصور الطبيب النفسي بصورة كوميدية لا يمكن اخذه على محمل الجد والمريض النفسي على انه مجنون ويجب عزله وتجنبه.
في هذا السياق، يقول الطبيب النفسي في مركز “أبكس” للعلاج النفسي قدير غلام: “الطب النفسي هو علم مستحدث بدأ يتجلى في نهاية الخمسينيات من هذا القرن. ونظرة المجتمعات الشرقية لا تختلف كثيرا عن تلك الغربية، ولكن ما يزيد الأمر تعقيداً في المجتمعات العربية هو التغطية الاعلامية الضعيفة والنقص في الاطباء النفسيين وسبل البحث”. ومشكلة اخرى تتعلق بالمريض النفسي وهي “اذا كنت مريضاً ولا اؤمن انني مريض اذا لماذا عليّ ان اطلب المساعدة؟” وهذا، بحسب غلام، قد يكون سببه الخوف من وصمة العار التي قد تلحق بهم أو قلة الوعي بما يتعلق بفهم دواعي العلاج النفسي.
ويضيف د. غلام “منذ سنتين تعّرفت على طبيب نفسي في الأردن، وذكر في حديثه ان عيادته تفتح في الليل لان المرضى لا يريدون الذهاب الى العيادة في وضح النهار. فهم يعرفون انهم يعيشون معاناة حقيقية، لكنهم لا يريدون الاعتراف بذلك. فيسهل على الناس تقبل الأوجاع الجسدية، لكن الاوجاع العاطفية او العقلية غير الملموسة قد ترعب المريض”.
وفي حديث مع نائب مدير المجلس العربي الأميركي والكلداني (أي سي سي) كارمن صرافة، أكدت فيه على تزايد أعداد الناس الذين يخضعون للعلاج النفسي وذلك حسب احصاءات تقوم بها المؤسسة سنوياً. وتقول صرافة “لطالما ارتبط مفهوم العلاج النفسي والمرض النفسي بوصمة عار اجتماعية شكلت خوفاً عند المرضى النفسيين ودفعتهم الى التكتم عن حالاتهم النفسية. الا أن أعداد المقبلين على العلاج النفسي والعقلي تزداد يوما بعد يوم”. وحسب صرافة الأمر قد يكون “ذا صلة بأن الناس لم تعد خائفة من طلب العلاج او ربما تزايد اعداد اللاجئين في الولايات المتحدة الاميركية الذي يسعى بعضهم الحصول على خدمة العجز من الدولة.. كما ان هنالك اسباب عديدة اخرى”.
وتشير صرافة الى الاختلاف الجذري الذي طرأ في عقلية المرضى وتقول “في السابق لم يرغب المرضى بالجلوس في غرفة الانتظار لترددهم من رؤية الاخرين لهم، بينما اليوم تحولت غرفة الانتظار الى محور للتعارف الاجتماعي والتآنس”. وتظهر الدراسة المعدة من قبل المجلس منذ سنتين ان عدد المرضى الذي تتراوح اعمارهم بين 18 و40 سنة يبلغ 550 شخصاً، أما ما بين اعمار 41 و65 سنة تصل اعدادهم الى 800.
محمد.. خوف اهله من ادمانه الدواء
يتمرس الشاب محمد في طب الجراحة، وهو من المتفوقين في مجاله. الا أنه يعاني من الهوس الاكتئابي الذي بدأت تظهر اولى علاماته في سن الـ21.
يروي محمد (٣٣ عاما) سيرته مع العلاج النفسي “لم يكن من السهل اقتناعي بضرورة خضوعي للعلاج النفسي الذي أصر اهلي عليه بعدما عايشوا التغيرات السلوكية التي طرأت على تصرفاتي ورغبتي الدائمة بالانعزال وتردي حالتي النفسية”.
ويضيف: “قصدت طبيبا نفسيا شخّص حالتي على انها هوس اكتئابي. في بداية العلاج ظهر عندي نوايا انتحارية، الا انه سرعان ما تحسن حالي مع تناولي الدواء. لكن اهلي كانوا متخوفين من ادماني على الدواء فأجبروني على التخلي عنه بعد 6 اشهر من العلاج”.
ويقول محمد “عشت على مدى أربع سنوات حالات انقطاع وعودة الى الدواء تزامناً مع ضغوط من الأهل، الذين بالطبع تكتموا تماماً عن الموضوع خصوصاً كوني طبيب، فماذا سيقولون للناس، انني طبيب وأخضع للعلاج النفسي؟”..
طوال هذه الفترة، عانى محمد تأرجحاً في حالته النفسية التي زادت من حدتها الانقطاع والعودة الى الادوية والتي كانت تساعد في البداية لتعود به الى نقطة الصفر.
أما اليوم فهو يخضع للعلاج النفسي ويتناول الدواء دون انقطاع مما جعل حالته النفسية مستقرة نسبياً. ويصر محمد على ابقاء الموضوع سراً عن اهله ويقول “لا ازال أتناول الادوية لكن دون علم اهلي وذلك بسبب خوفهم المبالغ فيه وعدم وعيهم الحقيقي لمعاناتي ومفهومهم الخاطئ حول الأدوية النفسية. كما اعرف الكثير من الاصدقاء المقربين ممن يعانون مشاكل نفسية، لكنهم يرفضون فكرة العلاج النفسي خوفاً من نظرة المجتمع. ويظن بعضهم انهم اذا خضعوا للعلاج النفسي فذلك يضعهم تحت تصنيف المجانين”.
أنواع متعددة للعلاج النفسي
يصنف د. غلام العلاج النفسي الى عدة فئات “العلاج الطبي الذي يتطلب تناول الادوية، والعلاج النفسي التحليلي الذي يعتمد على الكلام، والعلاج الأسري، والعلاج الجماعي، والعلاج السلوكي..”. وهنالك عدة امراض من بين الامراض النفسية والعقلية حيث يحتاج المريض، حسب الطببيب غلام الى تناول الدواء وذلك في الحالات التالية: “فصام الشخصية، الهوس الاكتئابي، الاحباط، صدمات الذعر، الوسواس القهري… وفي مثل هذه الحالات الدواء أساسي في حالة التحسن”.
وحول مدى فعالية العلاج، يقول د. غلام “انه امر يختلف بين شخص وآخر. هنالك حالات حيث تكون المشكلة متعلقة بعدم القدرة على “فش الخلق” او التنفيس عن مشاكل خاصة اجتماعية او عاطفية أو عائلية أو غير ذلك.. وقد تتحول الى مشكلة نفسية حقيقية اذا لم تعالج. وحالات اخرى أكثر تعقيداً حيث تستدعي الخضوع لطبيب نفسي وتناول الأدوية لفترات زمنية متفاوتة”.
من ناحية اخرى، تقول صرافة “العلاج النفسي يتطلب من المريض ان يكون مستعداً للعلاج والعمل على تحقيق التحسن. وعملية العلاج النفسي لا تحدث في مركزنا كما نرغب. فهنالك الكثير من المرضى الذين لا يتعاونون مع العلاج وكل ما يطلبون هو رؤية الطبيب النفسي للحصول على الدواء. كما نجد لدى معظم المرضى مشكلة التعبير عن انفسهم، وهذا أمرٌ يتعلق بشكل اساسي بنسبة الوعي لدى المرضى حول العلاج من جهة ومشاكلهم النفسية من جهة أخرى..”.
أما حول التكاليف المادية، تقول صرافة أن “أي سي سي” هو مركز اجتماعي “يعنى بالامراض العقلية والنفسية وبالتالي نقبل من معهم “ميديكيد او من لا يملكون اي ضمان صحي، ونستثني من عندهم ضمان صحي مع شركات خاصة. وهنالك اموال مخصصة من الدولة للذين لا يملكون ضمانا صحيا. كما أننا لا نستقبل الحالات التي تتطلب مجرد المساعدة الكلامية أي العلاج النفسي التحليلي بل كل ما يعتبر حالات مرضية متقدمة قد تشكل قلقاً عام”.
أماني.. محاولات انتحار متكررة
هي في عمر الورد كما يقال، 16 عاماً، والحياة لا تزهو بالألوان بل تعيش الاحباط المضني ومحاولات انتحار متكررة عبر تناول كميات كبيرة من الحبوب المسكنة. تقول أماني “أنام كل ليلة وعيوني تملؤها الدموع وأستيقظ كل صباحٍ على أوجاعٍ جسدية لا اعرف مصدرها. أكره كل شيء حولي ولا اعرف لماذا؟ وأشعر بعبئي على اهلي الذين يشعرون بحالي ويعاملونني بكل مراعاة. ولكنني مع ذلك لا استطيع ان أقدر لهم شيئاً. وحاولت الانتحار عدة مرات ولكن دون جدوى وطبعاً دون علم أهلي. عشنا أنا واخوتي ظروفاً صعبة منها انفصال أمي وأبي الذي فضل بها أبي امرأة اخرى علينا. وحتى اليوم لا أستطيع تخطي هذه الفكرة”.
وتضيف بحسرة “لماذا باقي أصدقائي عندهم آباء يعيشون معهم وأنا لا أملك ذلك؟” وطرح أخي فكرة ذهابي للعلاج النفسي الذي قد يساعدني في تخطي مشاكل سابقة وتراكمات نفسية عديدة، حسب قوله، الا ان أمي رفضت الموضوع تماماً وقالت: “هذا عيب وان كان هذا هو الحل الأخير عليك التكتم عن الموضوع، ولا أفهم لما كل هذه البلبلة، عليك الاتكال على الله ولا شيء ينقصك”. وحتى اليوم تعاني أماني من حزنها الدائم وعدم رغبتها على القيام بشيء ولم تسعَ للعلاج النفسي بعدما جاء صد أمها للفكرة من الأساس.
التوعية ضرورية
يقوم مجلس “أي سي سي” بحملات توعية في المركز، منها فردي واخرى على شكل مجموعات. كما يعمل المجلس على تحضير بعض الافلام التثقيفية للتوعية لكي تبث في قاعات الانتظار، والتي من شأنها تثقيف الناس ورفع نسبة الوعي حول الامراض النفسية والعقلية وسبل العلاج.
تأتي أهمية العلاج النفسي في تخفيف المعاناة عند الافراد واحياناً تجنبهم الوقوع في الانتحار الذي لا رجوع عنه وغيرها من المشاكل النفسية التي قد تبدأ عوارضها خفية لتستشري بالفرد الى حد السيطرة عليه كاملاً.
“المرضى النفسيون ليسوا مجانين، بل هم في حالة مرضية قابلة للعلاج تماماً كالأمراض العضوية. يتأثر المريض نفسياً بحال تجعله حزينا وبائسا وتؤثر على من حوله أيضاً.فهل يريد هذا الفرد الاستمرار بهذه المشاعر السلبية والتعاسة النفسية ام انه يريد العلاج؟” يقول د.غلام.
وهنالك الكثير من الناس الذين يعيرون اعتبارات كبيرة لما قد يسقطه الآخرون من أحكام مجحفة بحقهم، ولهؤلاء يقول الدكتور غلام “لا احد من هؤلاء يدفع فواتير حياتكم أو يحيا معاناتكم، لذلك عليكم ألا تعيروا انتباهاً لحشرية الآخرين. وعلى الاعلام أن يقوم بوظيفة افضل في نقل الصورة الحقيقية للطب النفسي والمرضى النفسيين. كذلك على الناس الذين واجهوا مشاكل نفسية وخضعوا للعلاج ان ينقلوا الرسالة الحقيقية لمعاناتهم وتجربتهم مع العلاج بدل التكتم والسرية. وبالطبع ينقص مجتمعاتنا الثقافة الجماعية التي تنمي التوعية العلمية”.
المرض النفسي ليس عيباً وليس خياراً، انما هو معاناة حقيقية يواجهها الكثيرون ويخفف من حدتها العلاج النفسي. فالأجدر بنا التعامل مع معاناة هؤلاء بوعي ومسؤولية بدل النظر اليهم بدونية واحتقار. ويبقى الموضوع معضلة ذات تحديات كبيرة يدفع ثمنها المرضى النفسيون كل يوم.
Leave a Reply