حقق القس تيري جونز، الذي دعا إلى حرق مصاحف في الذكرى التاسعة لهجمات الحادي عشر من أيلول، شهرة عالمية، لكنه لم يتحول إلى بطل وطني أميركي، أو ديني مسيحي، بل على العكس.. صار شخصاً منبوذاً حتى بالنسبة لسكان مدينته، غينسفيل في ولاية فلوريدا، التي شهدت مؤخراً أنشطة دينية واجتماعية لمواساة السكان ولرفض الصورة السلبية التي ألصقها القس المتطرف المثير للجدل بمدينتهم.
وعلينا كعرب ومسلمين في هذا المنقلب الأميركي أن نتأمل هذا المشهد جيداً. مشهد المدينة التي أراد لها البعض أن تصبح مسرحاً لحرق المصاحف، فإذ بها تتحول إلى منصات لأداء الصلاة ورفع الأذان، فيما يشبه الاعتذار. وعلينا أيضاً أن نعيد الثقة بالثقافة الأميركية وبالشعب الأميركي وتجربته الحضارية وقيمه الديمقراطية والحداثية، وأن نستقبل بامتنان المشاعر والنوايا الطيبة للأميركيين. فليس صحيحاً أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة، بل هي بدون أدنى شك مفروشة بالنوايا السيئة والشيطانية. ومن الضرورة بمكان أن نعيد قراءة “التجربة الأميركية” وميكانزماتها الاجتماعية والثقافية (من غير أن نسقط الميكانزمات السياسية التي أدخلتنا وتدخلنا في جدل طويل وساخن) والاستفادة من إمكانياتها لدعم دورنا وحضورنا في هذه البلاد.
ومبرر هذا الكلام، ليس ذلك التحشيد والشحن الهائل، المنتشر على الشبكة العنكبوتية، بين المتصحفين الشباب العرب، الذين تنتشر فيما بينهم حساسيات دينية ومذهبية (ناهيك عن الحساسيات القطرية والعشائرية وغيرها)، يجهدون أنفسهم بإقصاء ومحاولات طرح بعضهم البعض خارج الحلبة بضربات قاضية ونهائية، بل في بعض رجال الدين المسيحيين العرب الذين يقيمون في الولايات المتحدة والذين يريدون مقايضة إدانتهم لدعوات القس تيري جونز، بالحصول على إدانات “إسلامية” ضد التمييز الواقع على المسيحيين في بلدان المشرق العربي. والواقع.. أن الدعوة لإدانة الحيف الواقع على الطوائف المسيحية في بعض البلدان العربية هو أمر مطلوب، لذاته، ولأسباب لا تتعلق بوضع المسلمين في الغرب، فالمقايضة هاهنا لا تجوز أخلاقيا. فقد حصل أثناء أحد الاحتفالات في ديربورن أن قام أحد الآباء المسيحيين بإدانة القس جونز، ولكنه دعا “الآخرين” إلى إدانة المظاهرات ضد الأقباط في مصر، وإلى إدانة الدول العربية التي لا تسمح ببناء كنائس فيها.
وبالطبع، لا تجوز المقارنة هنا، ولا تجوز المقايضة. فإدانة دعوات القس المتطرف تيري جونز هي واجب أخلاقي وحضاري وإنساني، وإدانة تهجير المسيحيين من العراق، أو التمييز ضدهم في مصر، هو واجب أخلاقي وحضاري وإنساني (ووطني)، ولكن بدون الربط بين المسألتين.
في كتاب “سبعون-2” لميخائيل نعيمة الصادر في العام 1960 والذي يؤرخ لسيرة الكاتب الذاتية بين العامين 1911 و1932، كتب المغترب اللبناني في الصفحة 100: “لقد نفعني ابتعادي المؤقت عن نيويورك. إذ أنني، برغم محاولاتي، لم أستطع الاندماج بالجالية السورية-اللبنانية فيها، تلك الجالية التي قيل لي وقتئذ إنها تعد بين 30,000 و40,000 نسمة. فقد آلمني أن أرى السواد الأعظم منها يعيش في ضحاضيح من الثقافة الفكرية والجمالية والدينية والاجتماعية. وأقدس ما يقدسه الدولار. فالناس ما هجروا أوطانهم إلا حملوا معهم إلى مهجرهم جميع أحقادهم وخلافاتهم وضغائنهم وترهاتهم السياسية والطائفية. ألخ”.
بعد مئة عام، هل تعتقدون أنه تغير الكثير؟
Leave a Reply