صبحي غندور
نكبة فلسطين لم تبدأ يوم 15 مايو من العام 1948، وهي الآن ليست مجرّد ذكرى فقط. النكبة الفلسطينية بدأت في مطلع القرن العشرين وهي تستمرّ الآن بأشكال مختلفة بعد أكثر من مائة عام. فلقد سبق إعلان «المجلس اليهودي الصهيوني» في فلسطين لدولة إسرائيل في 14/5/1948 ومطالبته لدول العالم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية الوليدة عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني، سبق ذلك، عشرات السنين من التهيئة اليهودية الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة. وكانت خلف هذا الإعلان منظّمة صهيونية عالمية تعمل منذ تأسيسها في العام 1897 على كلّ الجبهات، وهي التي حصلت من بريطانيا على «وعد بلفور» الشهير ونظّمت هجرة يهودية كبيرة للأراضي الفلسطينية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، مروراً بحربين عالميتين استثمرت الحركة الصهيونية نتائجهما لصالح «خطّة إقامة دولة إسرائيل»، كما ربطت مصالحها الخاصة بمصالح دول كبرى بسطت سيطرتها على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.
عام 1897، قال تيودور هرتزل مؤسّس الحركة الصهيونية العالمية، مخاطباً أعضاء المؤتمر الصهيوني الأوّل الذي انعقد في سويسرا، «إنّكم بعد خمسين عاماً ستشهدون ولادة دولة إسرائيل».
وكان كلام هرتزل سبباً لاستهزاء بعض أعضاء المؤتمر، لأنّ المسافة الزمنية التي تحدّث عنها لم تكن بنظر هذا البعض كافيةً لإحداث تغييرات في العالم وفي أرض فلسطين لتظهر، كحصيلة لهذه المتغيّرات، دولة إسرائيل.
وبالفعل، فقد شهدت نهاية العقد الرابع من القرن العشرين إعلان دولة إسرائيل وبدء مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، وانتقالاً نوعياً في عمل الحركة الصهيونية بحيث أصبحت للمنظّمة العالمية دولة اعترفت بها الأمم المتّحدة ولكن ليست لهذه الدولة خارطة تبيّن حدودها الدولية النهائية، وهي ما زالت كذلك حتى اليوم.
وفي أواسط الخمسينيات تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، عدة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّه. وكان الحلّ في خلاصة أفكار هذه الرسائل: البحث عن ضابط في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل ثمّ يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتلّ المناطق الضرورية وتقوم دولة متحالفة مع إسرائيل.
وهذا المشروع الإسرائيلي رأى النور عام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء «دولة لبنان الحر» في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
وفي شباط (فبراير) 1982، نشرت مجلة «اتجاهات–كيفونيم» التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الاستراتيجية) تحت عنوان «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات» وجاء فيها: «أن العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينيات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكوّن كلّها من مجموعاتٍ عرقية مختلفة ومن أقلّياتٍ يسودها العداء لبعضها وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي».
ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل في ثمانينيات القرن العشرين، والذي يتّصل مع خطّتها السابقة في حقبة الخمسينيات، جرى بدء تنفيذه أيضاً من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982 ثمّ إشعال الصراعات الطائفية خلال فترة الاحتلال وفي أكثر من منطقة لبنانية.
وفي 11 آب (أغسطس) 1982، أي خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال رئيس حزب العمل الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز ما نصّه الحرفي: «إنّنا لا نريد وتحت أيّة ظروف أن نتحوّل إلى شرطي في لبنان، ولكن الحلّ الأقرب للتحقيق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسيمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى أي إلى نظام متصرّفية جبل لبنان».
وفي عام 1982 أيضاً أعلن أرييل شارون أنّ نظرية «الأمن الإسرائيلي» تصل إلى حدود باكستان!
***
هذا العرض المختصر للمخطّط الصهيوني في المنطقة العربية يعني أنّه مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الحكومات الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأشخاصها، فأن تنفيذ المخطط يبقى مستمراً حتى يحقّق أهدافه الكاملة.
فلا ترتبط الإستراتيجيات والخطط الإسرائيلية بحزبٍ معيّن في إسرائيل ولا بشخصٍ محدّد، بل هناك مؤسّسات وأجهزة وأدوات تتابع التنفيذ، منذ مؤتمر «بازل» في سويسرا عام 1897 مروراً بتأسيس دولة إسرائيل ثمّ حروبها على دول المنطقة.
وما يقوله الزعماء الصهاينة عن مخطّطاتهم (كما فعل هرتزل) لا يعني التنبّؤ أو التنجيم الفلكي، بل هو ممارسة «الأسلوب العلمي» في الصراع حيث هناك دائماً «حركة يومية» و«خطط عملية» لتنفيذ «إستراتيجية» تخدم «الغاية النهائية» الموضوعة سلفاً. فكلّ خطّة في أي صراع عليها مراعاة عنصريْ «الإمكانات المتاحة» و«الظروف المحيطة» لاستخدامهما واستغلالهما لصالح المخطّط المنشود تحقيقه.
وما سبق عرضه عن المخطّطات الصهيونية، لا يعني أننا –كعرب– ننفّذ ما يريد الصهاينة! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخطّطات الصهيونية والأجنبية الشاملة. فنكون دائماً «ردّة فعل» على «الفعل» الإسرائيلي أو الأجنبي الذي يتوقّع سلفاً (بحكم التخطيط العلمي) ماهيّة ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظيفها في إطار أهدافه.
أيضاً، كانت المشكلة وستبقى، بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من انقسامات وصراعات يبني عليها العدو الإسرائيلي ومن يدعمه. المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية جرت في المفاوضات والاتّفاقيات مع إسرائيل. المشكلة هي في انتقال الصراع العربي–الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه «صراع فلسطيني–إسرائيلي»، إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه صراعاً إسرائيلياً مع «منظّمات مسلّحة». كذلك، فإن سقوط المراهنة على دور أميركي «نزيه ومحايد» لم يرافقه تحسين الواقع الفلسطيني والعربي، وتغيير للنهج المعتمَد منذ عقود.
مشكلة الانقسام الفلسطيني ازدادت حدّةً بعد توقيع اتّفاقيات «أوسلو» والتي ثبت، بعد 28 عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يدعم الآن حكومة نتنياهو وسياستها في كامل قضايا الملفّ الفلسطيني.
فالمواقف التي تصدر عن إدارة ترامب بشأن القضية الفلسطينية، كلّها تتبنّى ما يدعو إليه نتنياهو من أجندة وقرارت بشأن الأراضي المحتلّة وحقوق الشعب الفلسطيني، لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني هي العنصر الأهمّ المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ضدّ إسرائيل والسياسة الأميركية الداعمة لها. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟
فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعودٍ أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل فعله للفلسطينيين والعرب؟
Leave a Reply