فاطمة الزين هاشم
كلّنا نعلم بأنّ المؤثّرات الوجدانية تأتي من خلال الوقائع الإنسانية وانسجامها مع الروح الآدمية لِتُصبح أخيراً مشهداً عالقاً في الذاكرة لا تمحوه الأيّام ولا يعتّم عليه تواتر السنين والأعوام.
إنّ ما لفتَ نظري وشدّ انتباهي في هذا المجال، هو موقف نبيل من قبل طبيب تجاه والده. إنّه الدكتور «أبو مصطفى»، الطبيب الذي أصيب بمرض كورونا وأقفل عيادته حفاظاً على صحّة مرضاه ثمّ حجر نفسه في المنزل لأيّام بعد التأكّد من إصابته بالفيروس، لكن لم تمض مدّة ضئيلة على ذلك، إلّا وتفاجأ بخبر إصابة والده ذي الثمانين عاماً بنفس المرض الذي طال أيضاً جميع الذين يعيشون معه في المنزل المشترك.
كان والده يعيش في منطقة نائية، فانتقل الطبيب إليها ليبقى قريباً منه خلال فترة مرضه، حيث الوازع التربوي والأخلاقي وواجب البرّ بالأبوّة، كلّ ذلك قد استنفر فيه مكامن الإخلاص والوفاء، فوقف إلى جانب أبيه يرعاه الرعاية الوافية المتطلّبة كإبن بارّ تجاه والده ويعالجه كطبيب بحكم اختصاصه، مثلما عالجَ جميع أفراد الأسرة المصابين بالمرض عينه، فقد نسي نفسه تماماً، ساهراً الليالي جنب والده بالرغم من تدهور حالته الصحية الصعبة التي تستوجب مزيداً من العناية والاهتمام الاستثنائيّين.
وعلى الرغم من كلّ ذلك –بالإضافة إلى مهاجمة المرض لأفراد العائلة جميعاً– كان الطبيب صبوراً ومتعاطفاً مع الجميع متدرّعا بقوّة الإيمان وصلابة التفاني في الخدمة، محاولاً التخفيف عنهم من أعباء هذا الوباء الشرس، فلم يستثنِ أحداً من حسن رعايته حتى أشرف على جميع المخالطين وذلك بعمل الفحص وتقديم العلاج فكانت يده الكريمة هي الوحيدة التي تساعد الجميع في حركة مكوكية لم تتوقّف ومن دون كلل أو ملل، ولم يترك وسيلة إلّا واتّبعها وتوسّل بها من أجل الحفاظ على حياة أبيه بحيث كان ينتظر لساعات حين يصطحبه إلى المستشفى لإنعاشه بالأوكسجين اللازم، ثمّ ليعيده إلى المنزل خوفاً عليه من الاحتكاك بالمرضى أو من عدم كفاية الرعاية الصحية المجزية في مثل الظروف العامة القاسية، لاسيما تحت وطأة الأعداد الهائلة من الإصابات مقابل الإمكانات الضعيفة في المستشفيات.
لقد عمل هذا الطبيب البار، كلّ ما بوسعه ليبقي والده على قيد الحياة وينتشله من شِباك هذا المرض الداهم اللعين، إلّا أنّ القدر المحتوم كانت إرادته أقوى وأسرع حيث توفّي الوالد وسط حزن الجميع وحسرتهم على فقدانه، فجاءت الفجيعة كضربة صاعقة مسّت شغاف قلب «أبو مصطفى»، الطبيب الذي لايعرف إلّا المحبّة والتفاني في خدمة من حوله كما العطف على الصغير واحترام الكبير.
لم يكتفِ بالخدمة اللامتناهية التي قدّمها لأبيه بكلّ طيبة خاطر ونكران ذات، بل تعدّى ذلك إلى التبرّع بمبلغ من المال عن روح والده الطاهرة إلى دار الأيتام صدقةً وعرفاناً بما قدّمه له الوالد من اهتمام وتعليم لكي يصل إلى ماهو عليه الآن كطبيب ناجح ومهمّ في مجتمعه وبيئته.
أتمنى كما يتمنّى معي القرّاء أن يكون أبو مصطفى نموذجاً يُحتذى به من قبل الأبناء ودرساً مفيداً وعظةً لمن يعقّون الآباء قبل فوات الأوان، حيث أنّ من حقّ الوالدين على أبنائهم الرعاية الوافية حتّى إلى درجة الإنفاق عليهما إن احتاجا إلى النفقة فذلك من أعظم متطلّبات البرّ بهما وأفضل السبل لشكرهما.
إنّ الله عزّ وجلّ بجميع رسالاته السماوية قد أوصى ببرّ الوالدين، وكما يزرع الإنسان يحصد، فإذا بررت بوالديك تكون قد أعطيت درساً لأبنائك وأحفادك في أن يبرّوك عند الكبر فضلاً عن المسيرة الحياتية بالمجمل، ويكفينا من ذلك قول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم في الآية الكريمة: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدينِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرِ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلَاً كَرِيمَاً» (الإسراء/23).
رحمنا الله وإيّاكم وجعلنا من الفائزين ببرّ الوالدين.
Leave a Reply