﴾تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴿ ٢-١ الملك
مع نهاية السّنة الدراسية ٢٠٠٩ كنت قد قررت البقاء هذا الصيف ولم أرتب لقضاء العطلة الصيفية في الوطن، وقضت مشيئة الله سبحانه أن يحين أجل والدي الذي رباني وأدبني ومنحني طعم الحرية منذ صغري، وأخر عهدي معه في الخامس عشر من شهر نيسان (أبريل) حين أخبرته بعدم عزمي على النزول للبلاد، فقال “إذا في أمان الله”، قلت له “ألله يطيل في عمرك ويبقيك لنا ذخراً”، ولكن كلمته ضلت تؤرقني. وفي الأسبوع الماضي دخل والدي المستشفى، وبعد ثلاثة أيام من المتابعة مع أخوتي أخبروني بأن والدي في حالة حرجة، سارعت لترتيب الحجز ووصلت إلى المملكة في تمام الساعة العاشرة مساء. وفي الصباح، ذهبت إلى المستشفى الذي يرقد فيه والدي ودخلت عليه في غرفة العناية ومعي ابنتي الكبيرة وأخذنا نحادثه ونمسح على رأسه وهو يشعر بنا، لكن الجهاز المثبت على فمه يمنعه من الكلام، وهمست في أذنه أنني سوف أعود بعد قليل لكن نظراته تقول: لا تذهب، إبق معي، في هذه الأثناء طلب منا الطبيب الخروج، فسلمنا على أمل العودة بعد الظهر، ولم يمهلنا ملك الموت فقبض أمانته، لهذه الإنعطافه في حياتي رأيت أن لا ابخل في الكتابة عن رحيل والدي.
كل الآباء يموتون وكل الأمهات يموتون.. بل كل البشر يموتون حتى الأنبياء لا يبقون، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ويفنى كل شيء، وكل شيء فان إلا وجهه سبحانه وتعالى، وما من مخلوق على وجه الأرض أشرف وأكرم عند الخالق سبحانه من رسول البشرية محمد (ص)، أنه لم يستثنى من هذه القاعدة الحتمية على العباد، يقول: تعالى ﴾إنك ميت وأنهم ميتون﴿.
والموت حق على كل البشر سواء آمنوا بالله أم لم يؤمنوا، ولم يتجرأ أحد من الخلق على إنكار الموت لأنهم يرونه حقيقة ماثلة أمامهم في كل لحظة، رغم إنكار بعض الخلائق من الجن والإنسان معنى الموت، فمنهم من يؤمن بالبعث والحياة الخالدة بعد محطة الفناء من دار الدنيا، ومنهم لا يؤمن بالدار الآخرة وينكر تفاصيلها، لكن الجميع يذعن ويستسلم للموت بلا مقدمات، فـسبحان الذي قهر عباده بالموت والفناء. وقد عانت البشرية من فكرة الموت وانتهاء الحياة، فالذين آمنوا بالله خالق الموت والحياة حسموا أمرهم وانتهت جدلية فلسفة الموت في عقولهم، أما غيرهم من الذين يعتقدون بأن الخوف من الموت والنفور منه هو أحدى العلل الدافعة نحو تكوين الفلسفة المتشائمة، يتصورون الحياة بلا هدف وهي خالية من الفائدة ومفتقرة إلى الحكمة، فكانت حياتهم مضطربة ومشوشة.
أما العارفون لله، الثابتون على الحق، الذين يؤمنون بأن الموت هو ليس نهاية الحياة وإنما هو بوابة للحياة الأبدية الخالدة، فإنهم لا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، وأبلغ تعريف للموت ما أخبر عنه سيد الشهداء وهو مقدم عليه في ليلة العاشر من المحرم ٦١سنة من الهجرة كان تحت الحصار الذي فرضه عليه “عبيد الله بن زياد” والي الكوفة، وفي أثناء الليل، جلس مع أخته العقيلة زينب (ع) يصبرها ويثبت عزيمتها على عظم المصاب وقال: “أوخي زينب إني رأيت جدي رسول الله (ص) في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا قريباً”، فاضطربت زينب وأدركت أن ذلك يعني أن الحسين قد حان أجله. فقالت: “وحزناه ليت، الموت أعدمني الحياة”، واغرورقت عيناها بالدموع، فنظر إليها الحسين بعطف وشفقة فقال لها “أوخي لا تحزني، ولا يذهبن بحلمك الشيطان”، قالت “بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، جعلت فداك نفسي، تنعى نفسك وتطلب مني الصبر”، قال لها “أخيّ تعزّي بعزاء الله، وأعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الارض بقدرته، وبعث الخلق فيعودون إليه، جدي خير مني، أبي، خير مني، أمي خير مني. أخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة حسنة.
Leave a Reply