دأب دونالد ترامب في خطبه ومقابلاته ومداخلاته خلال حملته الطويلة للعودة إلى البيت الأبيض، على استخدام كلمة «السلام» كلازمة في دعايته الانتخابية على قدم المساواة مع تعهده بـإعادة أميركا أمة عظيمة، وحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية على الفور. وكرر بلغته الشعبوية المبسطة التباهي إلى حد التبجح بقدراته الخارقة على وقف الحروب، خصوصاً في أوكرانيا والشرق الأوسط «خلال 24 ساعة»، وأحياناً بمفعول رجعي مفاده أن تلك الحروب لم تكن لتحصل أساساً لو كان هو الرئيس حين اندلعت!
نجحت تلك الوعود الجوفاء في إعادة استقطاب الناخبين المحافظين وحتى الكثير من المستقلين الذين أوصلوه إلى الرئاسة مجدداً في ظل الإحباط الذي ساد في أوساط الليبراليين والجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، جراء سياسة الرئيس السابق جو بايدن الذي أشرفت إدارته وشاركت في حرب الإبادة المتمادية التي نفذتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والعدوان السافر على لبنان، لكن حسابات الحقل الانتخابي الصاخب لم تنطبق على حسابات بيدر الواقع القائم على الأفعال وليس على الأقوال.
استهل ترامب ولايته الثانية في أجواء وفرت له شيئاً من المصداقية، ففي الأسابيع الأخيرة من ولاية بايدن تم الإعلان عن وقف إطلاق النار في لبنان (27 نوفمبر 2024) وفي غزة (15 يناير 2025)، وسارع ترامب حتى قبل أداء اليمين الدستورية إلى وضع هذين «الإنجازين» في سجله مدعياً مع الإعلام اليميني المحافظ أنه لم يكن ذلك ممكناً لولا فوزه في الانتخابات وهو الادعاء الذي ردده كبار المسؤولين في الإدارة الجديدة وخصوصاً المبعوثين المكلفين بمتابعة الوضع مع الأطراف المعنية. إلّا أن الوقائع الميدانية في الأيام الأولى لعودته كشفت عن صورة مختلفة لا تنطبق على مواصفات أي سلام، ففي لبنان، لم تلتزم إسرائيل بالقرار كاملاً وواصلت قواتها هجماتها المدمرة على الجنوب والبقاع وعمدت بعد دخول وقف النار حيز التنفيذ تفجير المنازل والبنى التحتية خصوصاً في المنطقة الحدودية المحاذية لفلسطين المحتلة، وعمدت في نهاية الستين يوماً التي كانت المهلة المحددة للتنفيذ الكامل للقرار إلى تمديد المهلة من جانب واحد (مدعوم بموافقة واشنطن) لمدة عشرين يوماً، لتتملص في النهاية من الالتزام بالقرار فأبقت على مواقع عسكرية في خمس مواقع لبنانية، وواصلت هجماتها الجوية اليومية على ما تدعي انها بنى تحتية لـ«حزب الله».
لم يكن الوضع في غزة أفضل حالاً، إذ لم تتقيد إسرائيل بوقف شامل لإطلاق النار وتلكأت في الانسحاب من الممرات الحيوية خصوصاً محور فيلادلفيا على الحدود بين القطاع ومصر ومعبر كرم بيت سالم، ومحور نتساريم الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها، ولم تسمح بدخول المساعدات الغذائية والطبية المنصوص عنها في الاتفاق فيما واصلت غاراتها الجوية اليومية على مناطق القطاع، وصعّدت عدوانها مع المستوطنين على مدن وقرى الضفة ومخيماتها خصوصاً في جنين وطولكرم ونابلس والخليل وطوباس ما أدى إلى مقتل العشرات واعتقال المئات وتهجير ما لا يقل عن 35 الفاً، وسط استمرار حملة الإستيطان المحمومة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقبل أيام، في الثامن عشر من مارس، جددت إسرائيل حرب الإبادة على غزة دون إنذار وشنت طائراتها وسفنها الحربية هجمات وحشية على خيم وما تبقى من بيوت متهالكة للغزيين وأوقعت أكثر من 500 قتيل بينهم رئيس حكومة «حماس» في غزة عصام الدعليس، ووكيل وزارة الداخلية العميد محمود أبو وطفة، وعضو المكتب السياسي محمود الجماصي، ورئيس هيئة التنظيم في وزارة الداخلية بهجت أبو سلطان، ووكيل وزارة العدل أحمد عمر الحتة، والذين قضوا مع معظم أفراد عائلاتهم.
وفي سوريا، وبعد انهيار النظام السابق في الثامن من ديسمبر 2024، عمدت قوات الاحتلال إلى احتلال المنطقة العازلة على طول حدود الجولان المحتل وتقدمت إلى قمة جبل الشيخ وتوغلت في المناطق المحررة من محافظة القنيطرة، كما شنت، ولا تزال، غارات شبه يومية على مواقع عسكرية كان الجيش السوري يشغلها في مختلف المناطق في ظل تدخل سافر في الشأن السوري الداخلي تحت شعار حماية الأقليات والتحريض المباشر لبعض الجماعات على عدم التعاون مع الحكومة الجديدة التي تسعى محلياً وعربياً ودولياً إلى لملمة أوصال بلد شهد أهوال حرب مدمرة استمرت 13 عاماً.
وفيما بدا واضحاً أن إدارة ترامب لم تكتف بما قدمته إدارة بايدن من دعم كامل لإسرائيل، بل زادت عليها إطلاق يد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ليفعل ما يحلو له في فلسطين وجوارها لينفذ أهدافه «تحت النار» على ما يقول الإعلام الإسرائيلي، يبدو أن ترامب بدأ في ترجمة شعاره «السلام من موقع الاقتدار» إنطلاقاً من اليمن حيث شنت الطائرات والبوارج الحربية أوسع حملة عسكرية من نوعها في الخامس عشر من مارس، ضد جماعة «أنصار الله» الحوثية استخدمت فيها صواريخ كروز وقنابل ثقيلة واستهدفت العاصمة صنعاء ومحافظات الحديدة وصعدة والبيضاء وحجة وعمران، وادت الغارات المتواصلة إلى مقتل العشرات وتدمير الكثير من المنشآت والمباني، وكان الجديد في الحملة العسكرية الجديدة تركيزها على استهداف قيادات الجماعة التي أعلنت انها شيعت عشرة من المسؤولين العسكريين فيها، بينما كانت صيحات الحرب تنطلق من واشنطن مصحوبة بتهديدات مباشرة إلى ايران.
أما في الميدان الأوروبي، وبعد استقواء ترامب ونائبه جاي دي فانس على الرئيس الأوكراني فلودومير زيلنسكي، وإجباره على القبول بهدنة محدودة مدتها شهر مع روسيا، بعد قطع المساعدات العسكرية ووقف التعاون الإستخباري مع كييف، وبعد التوقعات المتفائلة التي أشاعها البيت الأبيض عن قرب التوصل إلى وقف لإطلاق النار أثر زيارة المبعوث الرئاسي ستيفن ويتكوف إلى موسكو ولقائه مع فلاديمير بوتين، وبعد الترويج الكبير لإتصال هاتفي مباشر بين الرئيسين الأميركي والروسي وتصويره كخطوة حاسمة نحو الاتفاق، تمخض جبل الأوهام وولد فأراً واقعياً، وأفضى الإتصال الذي استمر ساعتين إلى جائزة ترضية لبوتين، سارع الإعلام اليميني إلى تصويرها إنجازاً لترامب، فتم الإعلان عن اتفاق على وقف الهجمات على قطاع الطاقة والبنى التحتية لمدة شهر بين الطرفين. وبانتظار رد زيلنسكي على الاتفاق، تنصلت موسكو مما يتعلق بالبنى التحتية وحصرته بقطاع الطاقة، وهذا يعني أن أوكرانيا التي عانت طوال أشهر الشتاء من الهجمات الروسية على محطات الكهرباء والمحروقات والغاز مستخدمة الصقيع كسلاح، سيكون عليها الآن أن توقف هجماتها على قطاع النفط والغاز الروسي وهو في مرمى صواريخها الموجهة ما يعني إتاحة المجال أمام روسيا لإستعادة طاقتها الإنتاجية وقدرتها على تصدير المزيد من النفط والغاز اللذين يمثلان الشريان الحيوي لتمويل حربها على أوكرانيا، وفي المقابل لم يقبل بوتين عرض وقف إطلاق النار وأبقاه معلقاً باتصالات مقبلة دون سقف زمني واضح.
وهكذا يكون ترامب قد أهدر في الشهرين الأولين من ولايته الثانية كل وعود السلام في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وأطلق بسبب سياسته الحمقاء المهددة لحلف شمال الأطلسي أوسع عملية تسلح وتجنيد في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات يصعب التكهن بها. ربما يعود سبب ذلك إلى اختلاف في معنى صناعة السلام، ففي التراث الأميركي كان أول حامل للقب Peacemaker «صانع السلام» هو مسدس ماغنوم 45، الذي انتجته شركة «كولت» عام 1872، واشتهر كثيراً في أفلام «الوسترن».
محمد العزير
Leave a Reply