واشنطن – بعد مخاض سياسي عسير وترقب أمني غير مسبوق، اجتازت الولايات المتحدة، الأسبوع الماضي، أزمة الانتقال السلمي للسلطة، بحفل تنصيب غير مألوف في تاريخ البلاد، حيث أدى الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، ونائبته كامالا هاريس، اليمين الدستورية وسط انتشار عسكري كثيف في شوارع العاصمة واشنطن، لتدخل الولايات المتحدة بذلك حقبة ما بعد الرئيس دونالد ترامب، الذي سارع خلفه الديمقراطي إلى إلغاء العديد من قرارته في غضون ساعات قليلة من دخوله البيت الأبيض.
وقال بايدن بينما اعتلى منصة التنصيب واضعاً يده على نسخة من الإنجيل تملكها عائلته وتعود إلى 127 عاماً: «أقسم بأن أخلص في أداء عملي رئيسا للولايات المتحدة، وسأفعل كل ما يمكنني فعله للحفاظ على دستور الولايات المتحدة وحمايته والدفاع عنه، فلتساعدني يا الله».
ودعا الرئيس السادس والأربعون في كلمة عقب القسم إلى «الوحدة»، متعهداً بإلحاق الهزيمة بنزعة الاعتقاد بتفوّق العرق الأبيض وبـ«الإرهاب الداخلي». وأشاد بيوم «أمل» و«انتصار للديمقراطية».
وقال بايدن في خطابه: «اليوم نحتفل بانتصار الديمقراطية، والعنف قبل أيام سعى لهزّ البلاد»، في إشارة إلى حادثة اقتحام مقر الكونغرس من قبل أنصار ترامب أثناء المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات، مضيفاً «نتطلع إلى الطريقة الأميركية الفريدة». وأكد أن «إرادة الشعب سمعت وتم تنفيذها».
وفي ظل تغيب ترامب عن حفل التنصيب غير التقليدي الذي أقيم بحضور سياسي وأمني وغياب جماهيري، حرص بايدن خلال خطابه على شكر «الرؤساء السابقين» من الحزبين على الحضور، وقال –متجاهلاً عدم حضور ترامب– إن الرئيس الأسبق جيمي كارتر لم يستطع الحضور إلى الحفل ولكنه «اتصل بي في الليلة الماضية».
وحضر بنس مراسم تنصيب بايدن، في موقف مخالف لترامب الذي يرفض حتى الآن التطرق إلى الرئيس الجديد بالاسم.
ومع أن ترامب تمنى حظاً موفقاً لـ«الإدارة الجديدة»، فإن الرئيس المنتهية ولايته لم يهنئ قط، الرئيس المنتخب، وقرر عدم حضور مراسم التنصيب، وهو أمر لم تشهده واشنطن، التي تحوّلت إلى ما يشبه ثكنة عسكرية، منذ 150 عاماً.
وقال بايدن: «نشهد اليوم بروز تطرف سياسي ونظرية تفوق العرق الأبيض والإرهاب الداخلي. علينا مواجهتها وإلحاق الهزيمة بها»، متعهداً «بالعمل على تحقيق حلم العدالة للجميع سريعاً».
وفي دعوة للوحدة الوطنية، قال بايدن «نستطيع أن نحارب الأعداء بالاتحاد»، واعداً أن يكون رئيساً لكل الأميركيين.
وفي تقليد رئاسي، توجه بايدن بعد حفل التنصيب إلى مقبرة أرلينغتون الوطنية حيث وضع برفقة هاريس والرؤساء السابقين إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول، قبل أن يتوجه إلى البيت الأبيض سيراً على الأقدام محاطاً بزوجته، جيل، وبقية عائلته وسط حماية عسكرية، ليبدأ مهامه رسمياً، خلفاً لترامب الذي انتقل للعيش في ولاية فلوريدا.
وكان ترامب قد غادر البيت الأبيض قبل ساعات من انتهاء ولايته الرئاسية، متحدثاً بشكل مقتضب عن ولاية «رائعة امتدت على أربع سنوات».
وقال ترامب قبل صعوده إلى الطائرة الرئاسية للمرة الأخيرة متوجهاً إلى فلوريدا من قاعدة «آندروز» الجوية: «أنجزنا الكثير معاً»، و«سنعود بطريقة أو بأخرى»، في الوقت الذي يستعد فيه الكونغرس لمساءلته بتهمة التحريض على التمرد في حادثة اقتحام الكابيتول.
واختتم كلمته بالقول «سنراكم قريباً»، ما صعد التكهنات بأن ترامب ينوي العودة بحزب جديد على الساحة السياسية الأميركية.
وكان ترامب قد أمضى ليلته الأخيرة في الحكم بإصدار العشرات من قرارات العفو أو تخفيف الأحكام، أبرزها لمصلحة المستشار السابق للبيت الأبيض ستيف بانون والمغني «ليل وين» ورئيس بلدية ديترويت الأسبق كوامي كيلباتريك وغيرهم، لكنه لم يصدر أي عفو عن نفسه أو أفراد عائلته.
إلى العمل
فور دخوله البيت الأبيض، جدد بايدن التزامه بإنقاذ الاقتصاد ومواجهة وباء كورونا، وقال في كلمة مصورة،بعد التوقيع على سلسلة أوامر تنفيذية تلغي قرارات سابقة لترامب: «لدينا فرص كبيرة لتغيير الأمور في الولايات المتحدة، وأنا متأكد من قدرتنا على ذلك».
ومن سلسلة المراسيم الرئاسية الجديدة، العودة لاتفاق باريس المناخي ومنظمة الصحة العالمية، فضلاً عن إلغاء حظر السفر المفروض على دول ذات أغلبية مسلمة ووقف تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك.
وقال بايدن للصحفيين في المكتب البيضاوي عندما بدأ توقيع الأوامر التنفيذية «لا يوجد وقت للبدء مثل اليوم.. سأبدأ بالوفاء بالوعود التي قطعتها للشعب الأميركي».
ومن المتوقع أن يوقع بايدن أوامر إضافية في الأيام المقبلة لنقض العديد من إجراءات الرئيس السابق.
وتعتبر العودة إلى اتفاقية باريس للمناخ من أهم الوعود التي قطعها بايدن خلال حملته الانتخابية لمعالجة ظاهرة الاحتباس الحراري، ولأجل ذلك فقد جلب أكبر فريق من خبراء المناخ إلى البيت الأبيض.
وكان الرئيس ترامب قد قرر الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ في عام 2017، بسبب تشددها مع الولايات المتحدة مقارنة ببلدان أخرى مثل الصين.
كذلك، علّق بايدن أعمال بناء الجدار على الحدود مع المكسيك وتمويله بموازنة من البنتاغون، وهي مسألة أثارت في السنوات الأربع الماضية معارك سياسية وقضائية حادة، غير أن إدارة ترامب تمكنت من إتمام حوالي 450 ميلاً من الجدار الحدودي.
كما وقّع بايدن قراراً يلغي ترخيص إنشاء أنبوب نفط بين كندا والمكسيك يؤدي إلى أضرار بيئية.
استراتيجية كورونا
وقّع بايدن أيضاً أمراً تنفيذياً للتعامل مع جائحة كورونا. وستشمل الإجراءات الجديدة فرض وضع الكمامة في المنشآت الفدرالية وأمراً بتأسيس مكتب جديد بالبيت الأبيض لتنسيق جهود التصدي لفيروس كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 400 ألف أميركي، وأصاب أكثر من 24 مليونا آخرين حتى الآن.
وقال بايدن في تغريدة على «تويتر» صباح الخميس الماضي: «ليس لدينا ثانية نضيعها عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على هذا الفيروس. لهذا السبب، سأوقع قرارات تنفيذية لتوسيع الفحوصات، وإدارة اللقاحات، وفتح المدارس والأعمال بشكل آمن».
وبناء عليه وقع بايدن مساءً، إلزام كل الأشخاص القادمين إلى أراضي الولايات المتحدة جواً بالخضوع لحجر صحي، وذلك ضمن 10 أوامر خاصة بإجراءات مكافحة كورونا.
وقال بايدن، في كلمة ألقاها من البيت الأبيض في أول يوم كامل له بالحكم: «في ظل ظهور سلالات جديدة للفيروس يتم اكتشافها، نفرض إجراءات جديدة تخص هؤلاء الذين يصلون إلى الولايات المتحدة من الدول الأخرى جواً. إضافة إلى ارتداء الكمامات، سيكون على أي شخص قادم إلى الولايات المتحدة إجراء فحص قبل ركوبه الطائرة، أي قبل الرحلة، وكذلك الخضوع لحجر صحي بعد وصوله إلى أميركا».
كما أكد أن إدارته تمدد المتطلبات الخاصة بارتداء الكمامات خلال السفر بين الولايات الأميركية بواسطة القطارات والطائرات والحافلات.
ولم يوضح بايدن في كلمته مدة الحجر الصحي أو موعد دخول هذا الأمر حيز التنفيذ، وهو أمر ستحدده المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (سي دي سي).
وذكرت «نيويورك تايمز» أن بايدن سيناقش مع أعضاء فريقه استراتيجية وطنية من 200 صفحة لمواجهة «كوفيد–19» ترتكز على تكثيف الاختبارات واللقاحات.ويطلق على الخطة اسم «الاستراتيجية الوطنية لمواجهة «كوفيد–19»، الاستجابة والتأهب».
وكان الرئيس السابق يرفض هذا المسار، ويصر على ضرورة أن تأخذ حكومات الولايات زمام المبادرة في مواجهة الوباء.
هاريس تدخل التاريخ
إذا كان بايدن قد دخل التاريخ بوصفه الرئيس المنتخب الأكبر سناً في تاريخ البلاد، فإن نائبته كامالا هاريس قد دخلت التاريخ من بابه الأوسع باعتبارها أول امرأة وأول أميركية سمراء وأول أميركية من أصل آسيوي، تشغل ثاني أرفع المناصب في الولايات المتحدة.
ويرى كثيرون أن هاريس (56 عاماً) مرشحة للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة عام 2024 إذا ارتأى بايدن (78 عاماً) ألا يرشح نفسه لفترة ثانية.
وتطلعت هاريس، المولودة لأم وأب هاجرا إلى الولايات المتحدة من الهند وجامايكا، لأن تصبح أول امرأة تشغل مقعد الرئاسة في البلاد عندما نافست بايدن وغيره على ترشيح الحزب الديمقراطي في 2020.
وبرزت هاريس المتزوجة من اليهودي الأميركي دوغ إيمهوف، باعتبارها المرأة الوحيدة ذات البشرة السمراء في مجلس الشيوخ الأميركي الذي استقالت منه قبل يومين من أدائها اليمين الدستورية، لتعود إليه بسلطة دستورية أقوى كصوت مرجح في المجلس المنقسم حالياً بالتساوي بين الديمقراطيين والجمهوريين.
سيطرة ديمقراطية
في اليوم السابق لحفل التنصيب الرئاسي، أدى ثلاثة أعضاء جدد في مجلس الشيوخ الأميركي، القسم الدستوري، لتصبح الأغلبية بيد الديمقراطيين الذين باتوا يسيطرون أيضاً على مجلس النواب والسلطة التنفيذية.
وأدى القسم السناتوران الديمقراطيان الجديدان عن ولاية جوروجيا، جون أوسوف ورفائيل وورنوك إضافة إلى أليكس باديليا الذي حل محل هاريس عن ولاية كاليفورنيا.
ووصول الأعضاء الثلاثة الجدد إلى مجلس الشيوخ يشكل سابقة، إذ سيكون وارنوك أول سناتور من أصول أفريقية يمثل جورجيا، وأوسوف أول يهودي عن الولاية في مجلس الشيوخ، أما باديا فسيصبح أول سناتور من أصول لاتينية عن كاليفورنيا.
وتتوزع المقاعد في مجلس الشيوخ بالمناصفة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري (50 مقعداً مقابل 50)، ولكن يحق لهاريس أن تدلي بصوتها في حال التعادل أثناء التصويت، ما يتيح للديمقراطيين السيطرة على مجلس الشيوخ، ما يعني أن السناتور الديمقراطي تشاك شومر، سيصبح زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، وهو أول يهودي يتولى هذا المنصب.
وسيساعد صوت هاريس المرجح، إدارة بايدن، على تأكيد التعيينات ومنح الديمقراطيين سلطة على اللجان المسؤولة عن عقد جلسات الاستماع الرقابية، وصياغة تشريعات بعيدة المدى.
وبانتقال الغالبية في مجلس الشيوخ إلى الحزب الديمقراطي، بات الديمقراطيون يسيطرون على كل مقاليد السلطة في واشنطن، ما يمنح بايدن فرصة ذهبية لتنفيذ جدول أعمال حافل بالمشاريع، خصوصاً حزمة إنقاذ بقيمة 1.9 تريليون دولار لمساعدة العائلات والشركات الأميركية المتضررة من جائحة «كوفيد–19».
وتنص خطة بايدن لمكافحة الأزمتين الاقتصادية والصحية اللتين تمر بهما الولايات المتحدة، على دفع شيكات جديدة، بقيمة 1,400 دولار لكل شخص، وستمدد مهلة دفع إعانات البطالة التي ستزادد بقيمة 400 دولار أسبوعيا لكل شخص، حتى 30 سبتمبر 2021.
كما تنص على تخصيص 20 مليار دولار لتسريع وتيرة اللقاحات، وخمسين مليار دولار لزيادة عدد الفحوص الطبية للكشف عن فيروس كورونا المستجد.
وتجدر الإشارة إلى أن الديمقراطيين يتمتعون بالأغلبية في مجلس النواب، بواقع 221 مقعداً مقابل 211 للجمهوريين.
تأجيل العزل
تقدم زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الخميس الماضي، بمقترح لتأجيل محاكمة الرئيس السابق، إلى منتصف شهر شباط (فبراير) القادم، ليتمكن فريق ترامب القانوني من الاستعداد للدفاع.
ويسعى الديمقراطيون إلى محاكمة ترامب بتهمة «التحريض على التمرد»، في مسعى لمنعه من الترشح لمناصب فدرالية في المستقبل.
وقال ماكونيل، في بيان، إنه اقترح جدولاً زمنياً للمحاكمة، تقدم به إلى زعيم الأغلبية الديمقراطية، شومر.
ويقترح الجدول الزمني الذي أعده ماكونيل تقديم مجلس النواب لبنود المحاكمة إلى مجلس الشيوخ يوم 28 يناير، ومن ثم إعطاء فريق ترامب القانوني 14 يوماً لإعداد موجزهم ما قبل المحاكمة.
من جهتها، رفضت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، إعطاء إطار زمني لموعد محاكمة ترامب. وقالت في مؤتمر صحافي عقدته بمبنى الكابيتول إن الأيام القليلة المقبلة ستشهد بحث موعد محاكمة ترامب في الكونغرس، مضيفة أن إرسال بنود الاتهام إلى مجلس الشيوخ مقترن بمدى استعداد المجلس لتلقيها من عدمه.
Leave a Reply