البوكمال .. معبر نحو نهاية الحرب السورية
انتصر العراق، وأزاح الثقل الداعشي عنه، الذي أرهقه لسنوات.. وها هي سوريا تسير مسرعة في طريق الانتصار والحسم بإنهاء هذا التنظيم الإرهابي في باديتها، لتطوي سبع سنوات عجاف عاشها هذا البلد في مواجهة هذا التنظيم وأخواته.. فكان تحرير البوكمال الأسبوع الماضي، كآخر مدينة في قبضة «داعش»، منعطفاً تاريخياً لإنهاء الحرب السورية.
قبل سنوات قليلة، لم يكن اسم البوكمال معروفاً سوى في صفوف سائقي الشاحنات الذين يعملون على خط دمشق–بغداد. لكن المدينة الصغيرة المطلة على المعبر الرئيسي على الحدود العراقية–السورية، أخذت تكتسب أهمية كبرى، بعد احتدام الصراع المسلح في سوريا، ولا سيما في مراحله المتقدمة حين سيطر تنظيم «داعش» الإرهابي على كافة المعابر الحدودية، لتصبح البوكمال عمقاً له ونقطة ارتكاز أساسية للتكفيريين.
لكنّ أهمية البوكمال اتخذت منحى استراتيجياً خلال الأشهر الماضية، لتتحوّل إلى نقطة تتسابق إليها القوى الأساسية في الصراع، كآخر المعاقل الأساسية لتنظيم داعش، بعدما تمكنت القوات العراقية من تحرير كافة المناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم على الجانب العراقي من الحدود، بدخول القائم وراوة، ولم يتبق لفلول التنظيم سوى الهرب إلى الصحراء والاختباء في جحوره التي تصر القوات العراقية والسورية على تطهيرها بالكامل.
البوكمال.. الهدف
منذ أشهر تحولت البوكمال إلى نقطة هدف للقوات السورية والحلفاء المتقدمين من عدة محاور بغطاء روسي منذ تحقيق الانتصار الكبير بفك حصار دير الزور، وتمكّن «قوات سوريا الديمقراطية»، المدعومة أميركياً، من السيطرة على العاصمة الثانية لتكفيريي أبو بكر البغدادي في الرقة، تزامناً مع حملة عسكرية واسعة، دفعت بالجيش العراقي والحشد الشعبي باتجاه استعادة السيطرة على مدينة القائم، على الجهة الحدودية المقابلة، ما جعل «دواعش» البوكمال محاصرين من ثلاث جهات.
اتخذ الصرع على المدينة بعداً إقليمياً ودولياً، لتنتهي المعركة قبل أيام قليلة، وبعد جولات من الكر والفر، لصالح الجيش السوري وحلفائه الذين حصلوا على غطاء جوي روسي هائل، استلزم توجيه ضربات دقيقة من جانب القوات الجو–فضائية الروسية، التي لم توفر صواريخ «كاليبر» المجنحة ذات التوجيه الدقيق، وحتى القاذفات الاستراتيجية التي لا تعطى الأوامر لانطلاقتها إلا حين يتعلق الأمر بمعارك مفصلية، على غرار ما حدث سابقاً في حلب ودير الزور. فتحررت البوكمال ووصلت الحدود العراقية والسورية عبر ممر القائم–البوكمال.
وبهذه السيطرة على آخر المدن التي كان يحتلها «داعش» في سوريا، بقيادة واشراف قائد لواء القدس الجنرال قاسم سليماني، لم يتبق للتنظيم الإرهابي أرضية عسكرية وأمنية وغرفة عمليات اساسية، وبدأ يلفظ انفاسه الأخيرة وحتى اللحظة بقي التنظيم في جيبين شرق وغرب نهر الفرات بمساحة بتقدر 14 ألف كم مربع.
وأكد أمين عام «حزب الله» السيد نصر الله أن تحرير مدينة البوكمال من تنظيم «داعش» يعني أنه لم تعد هناك مدينة يسيطر عليها التنظيم ليس في سوريا فقط، بل في المنطقة، وأن بتحرير المدينة تكون دولة «داعش» قد سقطت، ولكن ذلك لا يعني انتهاء التنظيم، وقال «يمكن للتاريخ أن يسجل نهاية دولة داعش بتحرير مدينة».
هزيمة مشروع
وفي الواقع، فإنّ استعادة الجيش السوري السيطرة على البوكمال، يعد هزيمة جديدة للمشروع الأميركي في سوريا الذي سعى جاهداً لعدم السماح بفتح خط دمشق–بغداد البري، وهو ما نجحت فيه واشنطن مؤقتاً عبر إغلاق معبر التنف الحدودي وإحاطته بالخطوط الحمر لمنع تقدم القوات السورية إليه، ولكن الجيش وحلفاءه كانوا الأسرع إلى البوكمال.
وللتذكير فإنّ الولايات المتحدة سعت، منذ فترة طويلة، لأن تستبق تطوّر المعارك على كافة الجبهات السورية، بعد انطلاق الحملة العسكرية الروسية في أواخر العام 2015، بمحاولات عدّة للسيطرة على البوكمال، لكنها منيت بفشل كبير، من أبرز فصوله، نجاح تنظيم «داعش» في سحق قوة عسكرية وليدة من المعارضة السورية، حمل اسم «جيش سوريا الجديد»، جهزته الولايات المتحدة لخوض معركة المعابر الحدودية.
وبرغم تلك الهزيمة النكراء، التي قابلها الجيش السوري بعملية عسكرية مرتبطة بالبوكمال، والمتمثلة في قطع الطريق أمام قوات خاصة أميركية للتقدم عبر البادية السورية انطلاقاً من معبر التنف، القريب من الحدود السورية–الأردنية، استمرت المحاولات الأميركي لمسابقة السوريين والروس والإيرانين، وكان آخرها مسعى لحشد فصائل عربية في ريف الحسكة الجنوبي، لقيادتهم نحو البوكمال، بالتزامن مع انشغال الجيش السوري بتحرير دير الزور ومحيطها، ولكن هذا المسعى اصطدم بالخلافات التي سادت بين تلك الفصائل و«قوات سوريا الديمقراطية» ذات الغالبية الكردية.
خريطة طريق
وعلى أيّ حال، فإنّ الكلمة الأخيرة في الميدان قيلت، وبات انتصار البوكمال يشكل المعبر نحو إنهاء الحرب السورية، وفق تفاهمات، يبدو أنها ستصب في نهاية المطاف ضمن تسوية سياسية، تفقد الولايات المتحدة فيها أوراقاً كثيرة.
ولعلّ معركة البوكمال قد رسمت في الواقع خريطة الطريق الروسية للمرحلة المقبلة من المفاوضات، على خطّي أستانا وجنيف، إلى جانب لقاءات سوتشي، والتي استبقها الرئيس فلاديمير بوتين بحراك سياسي متعدد الخطوط، وذي دلالات بالغة، أبرزها استقباله الرئيس بشار الأسد، كحليف في الانتصار كما في التسوية، وعقده قمة روسية–تركية–إيرانية بشأن سوريا، يبدو أنها خرجت بتفاهمات جوهرية، علاوة على تنسيق ومباحثات هاتفية مطوّلة مع كافة العواصم المؤثرة، بدءاً بواشنطن، مروراً بالقاهرة وتل أبيب، وصولاً إلى الرياض والدوحة.
ولا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ ذلك الترابط الجوهري بين هذا الحراك الروسي المكثّف وبين ما تحقق في البوكمال، والذي كرّس عملياً نقاط الارتكاز التي ستبنى عليها مرحلة التسوية المقبلة وإنهاء الحرب السورية بانتصار دمشق وحلفائها.
ربح .. وخسارة
وبميزان الربح والخسارة، فإنّ ثمة أطرافاً ثلاثة أساسية بدت مستفيدة من الانتصار الميداني في الشرق السوري، أولها الجيش السوري، الذي بات، وفقاً للتقديرات الروسية، يسيطرة عملياً على 90 بالمئة من الأرض السورية، التي كانت قبل عامين مهددة بالتفكك؛ وثانيها روسيا التي ثبّتت موقعها أكثر فأكثر في المعادلة السورية، والشرق أوسطية والدولية، من خلال تفوق عسكري سريع، سيمكنها من التفرغ أكثر لملف التسوية السياسية، والحصول على ورقة تفاوض قوية تتجاوز سوريا. وأما ثالثها فإيران، التي ضمنت لها ممراً يربط طهران ببغداد ودمشق، وصولاً إلى بيروت، وهو ما قد يفسر بعضاً من أسباب التصعيد السعودي الأخير ضد محور المقاومة، من البوابة اللبنانية.
ولعل ما سبق يكرّس أكثر فأكثر قوة المحور الجديد الذي بدأ يتشكل إقليمياً، وبدعم روسي، وهو ما تبدّى في محطتين أساسيتين مرتبطة بمعركة البوكمال: الأولى قيام قاذفات «تو – 22 أم 3» الاستراتيجية بالاقلاع من روسيا، والتحليق في الأجواء الايرانية والعراقية، قبل أن تنفذ غاراتها على مواقع «داعش» في شرق سوريا؛ والثانية، التنسيق الكامل للعمليات العسكرية على جانبي الحدود السورية العراقية.
وأما الخاسر الأكبر، فهي الولايات المتحدة التي أنهت معركة البوكمال، وقبلها دير الزور، أحلام واشنطن بالسيطرة على الشرق السوري وفصل الشام عن العراق، قطعاً للتواصل البري بين أطراف محور المقاومة، علاوة على فشل مخططها للسطيرة على منابع النفط في تلك المنطقة، التي توصف بأنها خزان الطاقة الأحفورية في سوريا، وشريان خطوط الأنابيب بين سوريا والعراق.
وعلاوة على ما سبق، فإنّ ما تحقق في الشرق السوري من انتصارات عسكرية، والجهود الروسية لربط ذلك بالتسوية السياسية، يضيف خسارة إضافية للولايات المتحدة، تتمثل في تكريس الطلاق التدريجي بينها وبين تركيا التي تجد نفسها اليوم، أكثر قرباً من روسيا، وهو ما تبدّى في التفاهمات التي خرجت منها قمة سوتشي، التي جمعت الرؤساء رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين وحسن روحاني.
وهذه التفاهمات تصب بطبيعة الحال في إجهاض ما بات يعرف بـالخطة «د»، التي تهدف إلى دفع الأكراد نحو السيطرة على أجزاء واسعة من محافظة دير الزور، بحسب ما كشفت بعض مراكز الأبحاث الغربية.
ويكمن الترابط بين تفاهمات سوتشي وفشل الخطة «د»، في أن روسيا تنظر إلى تركيا باعتبارها جهة إقليمية يمكن أن تساعد في تطبيع الأوضاع في سوريا، وقد تمت مناقشة تلك المسألة بشكل مفصل خلال اللقاء الأخير الذي عقده بوتين مع أردوغان في سوتشي، في ١٣ تشرين الثاني الجاري، لا سيما حين يتعلق الأمر بتوسيع مناطق خفض التصعيد في سوريا لتشمل محافظة إدلب.
وبحسب ما رشح في الصحافة الروسية، مؤخراً، فإنّ الدور التركي، يفترض أن تقابله روسيا بمبادرة تتمثل في وقف التدخل لتخفيف الضغوط التركية على الأكراد سواء في تركيا أو في شمال سوريا، ما يعني أن الأكراد السوريين سيصبحون مضطرين لنقل وجهة عملياتهم من الشرق السوري، باتجاه خطوط دفاع مواجهة المنطقة العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، حيث معاقلهم الرئيسية، ولا سيما في عفرين.
بذلك تكون سوريا قد باتت على أعتاب مرحلة جديدة، من المؤكد أنها سترسم بدورها الكثير من المعطيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط بأكمله لسنوات قادمة.
Leave a Reply