وليد مرمر – لندن
ربما لم يصدق بعض المراقبين، أو ربما يريدون أن يصدقوا، التسريبات التي نُشرت في وسائل الإعلام حول لقاءات إيرانية–سعودية تجري في العراق برعاية رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. لكن المواقف «الإيجابية» التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان جاءت لتؤكد هذه الاستدارة تجاه طهران، ولو على نطاق ضيق حالياً.
فلقد أكد محمد بن سلمان –بنفسه– لقناة «السعودية»، «أن المملكة لا تعارض نمو وازدهار إيران، لكنها تختلف معها في برنامجها النووي وسلوكها وتحركاتها في المنطقة»، موضحاً أن السعودية لن تقبل أي ضغط عليها في شؤونها الداخلية، وأن المملكة «تطمح لأن تكون هناك علاقات جيدة مع إيران، لأنها دولة جارة في المنطقة».
يبدو جلياً للمتابع أن هذه المواقف المتغيرة كانت ثمرة لسياسات إيران الواضحة والثابتة وغير المواربة في كل الملفات الإقليمية، سيما منها الملف النووي، والتي على أساسها تواصل طهران تحقيق نجاحاتها الاستراتيجية في سائر البلدان الإقليمية التي لها فيها تأثير. وأمام الصلابة الإيرانية هذه، يتبادر إلى الذهن، مثال بلدين عربيين انتهجا سياسات الرضوخ والإذعان، لكن تلكم السياسات لم تجنبهما التدخل الغربي السافر والمدمر.
النموذج الليبي
في مثل هذه الأيام، يكون قد مرّ عشر سنوات على «الثورة» الليبية ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي. لكن للأسف، لا تزال البلاد تعاني من انهيارات سياسية وأمنية واقتصادية غير مسبوقة حيث تتصارع على أراضيها مختلف القوى الإقليمية والغربية مشيعةً الفوضى السياسية والأمنية.
ولكن ألم يرضخ القذافي لكل الشروط المجحفة التي فرضها عليه الغرب؟ ولِم لَمْ يؤمن له ذلك الرضوخ حصانة من قبل تلك الدول ضد العشائر والميليشيات التي دعمتها للانقلاب عليه؟
لقد وافق القذافي عام 2003 على التخلص من برنامجه الصناعي التسليحي تحت حجة التخلص من أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية، وذلك طمعاً برفع العقوبات المفروضة على ليبيا. ووفقاً لوزير خارجية القذافي السابق، عبد الرحمن شلقم، فإن «السبب الذي دفع القذافي في النهاية إلى التخلي عن أسلحة الدمار الشامل وبرنامج الأسلحة النووية كان رسالةً مسجلةً عام 2001 من رئيس الولايات المتحدة، جورج بوش، قال له فيها: إما أن تتخلص من أسلحة الدمار الشامل أو أن الولايات المتحدة سوف تدمرها بنفسها وتدمر كل شيء دون مناقشة».
عندها، بدأ المسؤولون الليبيون بتفكيك البرنامج الليبي النووي بشكل رسمي وبمساعدة خبراء أجانب.
ثم قامت ليبيا بتزويد الدبلوماسيين البريطانيين والأميركيين والروس بوثائق وتفاصيل إضافيةً حول أنشطة ليبيا الكيميائية والحيوية والنووية وحول الصواريخ الباليستية، سامحة للمفتشين الأجانب بزيارة كل المواقع السرية، إضافة لعشرات المختبرات والمعامل العسكرية للبحث عن أدلة محتملة على الأنشطة المتعلقة بدورة الوقود النووي والبرامج الكيميائية والصاروخية.
وفي العام نفسه، اعترف القذافي بالمسؤولية عن تفجير طائرة «پان أميركان» فوق لوكربي–اسكوتلندا ودفع تعويضات لأسر الضحايا بلغت 2.7 مليار دولار.
وفي عام 2004، صرّحت بولا دي سوتر، مساعدة وزير الخارجية الأميركي آنذاك، قائلة: «نريد تعلم الدروس من نزع السلاح في ليبيا لأننا نريد أن تكون ليبيا مثالاً يُحتذى به للدول الأخرى». ولكن ماذا كانت نتيجة كل تلك التنازلات الليبية تجاه الغرب؟
لقد تم إشعال الحرب الأهلية في ليبيا ليقوم حلف الناتو على أثرها بالتدخل المباشر، قبل أن تقوم المخابرات الفرنسية بإعلام ميليشيات مصراتة عن مكان القذافي ليتم إعدامه بطريقة همجية. وما تزال ليبيا إلى اليوم تعاني من فشل العملية السياسية وسط تفاقم الصراعات القبلية التي يغذيها التدخل الأجنبي من أجل تنفيذ مشروع تقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق، حسب صحيفة «الغارديان».
النموذج العراقي
العراق، قام أيضاً بتدمير مخزونه من الأسلحة الكيميائية وأنهى برنامجه للأسلحة البيولوجية والنووية إذعاناً لقرارات مجلس الأمن الدولي في تسعينيات القرن الماضي. وأُتبع ذلك ببدء عمليات التفتيش المذلة التي قامت بها الأمم المتحدة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1441، الذي طلب من نظام صدام حسين أن يقدم «تعاوناً فورياً وغير مشروط» مع مفتشي الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هكذا، سمح للمفتشين الدوليين بزيارة أية منشأة عسكرية أو شبه عسكرية ومن دون إنذار مسبق وهو ما اعتبر وقتها «انتهاكاً صارخاً ومتواصلاً للسيادة العراقية». ثم اشتدت محنة الشعب العراقي مع فرض مجلس الأمن عقوبات لقتصادية خانقة تسببت بكارثة إنسانية أدت إلى وفاة مليون ونصف مليون طفل نتيجة الجوع ونقص الأدوية، وفق بعض التقارير.
ولكن هل جنّب ذلك «الانبطاح الصدّامي» المآسي والويلات اللاحقة التي حلت بالعراق وشعبه؟ بالطبع لا..
فبالرغم من فشلهما في إقناع مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار جديد يجيز استخدام القوة ضد العراق، قام جورج بوش الابن وحليفه توني بلير ومن ركب ركبهما، بشنّ حرب غير قانونية على بلاد الرافدين استندت إلى أدلة مفبركة تزعم بأن نظام صدام حسين لا يزال يبني أسلحة الدمار الشامل ويخبئ مخزونات كبيرة منها.
هكذا، تم غزو العراق والإطاحة بصدام حسين عام 2003. وبعد أشهر قليلة، صرّح سكوت ريتر، رئيس فريق المفتشين عن الأسلحة في العراق، قائلاً: «عندما تركنا العراق عام 1988 كان قد تمَّ التخلُّص من البنية الأساسية بنسبة 100 بالمئة كما تم تدمير إمكانيات تصميم الأسلحة وكل معدات الإنتاج، وكانت لنا وسائل مراقبة من الأرض والجو ولم نجد شيئاً. لقد كان العراق منزوع السلاح بشكل أساسي وكان قد تم التحقق من إزالة نسبة تتراوح بين 90 إلى 95 بالمئة من أسلحة الدمار الشامل، أما النسبة الباقية المفقودة فلم تكن تدل على أي نوع من برامج التسلح»!
النموذج الإيراني
شكلت السياسة السيادية الإيرانية مثالاً يُحتذى به، في مقارعة محاولات الهيمنة الخارجية. فبعد سقوط نظام الشاه، قام صدام حسين –بمؤازرة أطراف إقليمية ودولية عدة– بمحاولة القضاء على الثورة الإسلامية عبر شن حرب شعواء ضد إيران استمرت ثماني سنوات. لكن ورغم أن الثورة كانت لا تزال طرية العود إلا أنها صمدت في وجه ذلك العدوان الإقليمي–الدولي عليها، دون تقديم أي تنازلات. ثم جاء برنامج إيران النووي ليشكل أزمة دولية لا تزال تقض مضاجع الغرب حتى يومنا هذا.
وإبان المحادثات الدولية مع إيران على مدى عقد من الزمن لم تتنازل إيران قيد أنملة عن حقها السيادي في تخصيب اليورانيوم وفي امتلاك المعرفة والخبرة النووية. وفي النهاية، رضخت دول الخمسة زائد واحد وأقرت بحق إيران بامتلاك الطاقة النووية وتم توقيع توقيع اتفاق فيينا الشهير. لكن هذا كله تغير فجأة مع مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الذي انقلب على الاتفاق الذي لم يرَ فيه مصلحة أميركية ولجأ إلى فرض عقوبات غير مسبوقة تعدّ الأقصى على الإطلاق (أكثر من 1,600 عقوبة) بهدف إيقاف برنامج طهران النووي ودفعها إلى التفاوض معه وفق شروطه. ولا شك أن تلك العقوبات تسببت بتصدّعات خطيرة في اقتصاديات إيران، تجاوزت البرنامجَ النووي والعاملين فيه لتطال الدولة والنظام والبنية الاقتصادية وذلك عبر ضرب قطاعات النفط والشحن والمصارف والصناعة وغيرها، إضافة لأشخاص وهيئات خارجية داعمة للبرنامج النووي الإيراني. وأدت هذه العقوبات إلى انهيار العملة الإيرانية مما أحدث قلقا وذعرا لدى المواطن.
ولما لم تؤت العقوبات الأميركية أكلها بمنع طهران من المضي قدماً في برنامجها النووي. قام ترامب مراراً بدعوة الحكومة الإيرانية لمفاوضات ثنائية، لكن تلك الدعوات كانت تُقَابل بالرفض المطلق من الجانب الإيراني الذي اشترط الرفع الكلي للعقوبات قبل الدخول في أية مفاوضات جديدة! وذهب ترامب إلى حد الإعلان عن أن رقم هاتفه موجود عند سويسرا وأنه بإمكان الإيرانيين أن يتصلوا به أنى شاؤوا. لكن الإيرانيين لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال، لأن موقف طهران السيادي غير المهادن وغير القابل للتفاوض كان واضحاً: «لا محادثات ولا اتصالات قبل رفع العقوبات».
أما بعد مجيء إدارة ديمقراطية جديدة للبيت الأبيض، سارع الرئيس جو بايدن إلى محاولة فتح قنوات اتصال مع طهران، لكن الأخيرة أصرت على مطلب رفع العقوبات قبل أي شيء آخر. والآن، تجري محادثات غير مباشرة في فيينا بين الفريقين الإيراني والأميركي عبر الوسيط الأوروبي بغية تذليل العقبات للعودة إلى الاتفاق النووي، بعدما كانت إيران قد أعلنت قبل أكثر من أسبوع، وفي خطوة مفاجئة، وفيها الكثير من التحدي، عن رفع مستوى التخصيب في معاملها إلى درجة 60 بالمئة.
هكذا انتصر الصبر الإيراني مجدداً، فاتحاً المجال أمام نجاحات أخرى، من بينها تليين موقف محمد بن سلمان الذي أخشى ما يخشاه تحرير مأرب اليمنية من قبل «أنصار الله»، وهو ما دفعه للتودد لدى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي لترتيب لقاءات سعودية–إيرانية في العراق. ثم جاء حديث ولي العهد لقناة «السعودية» وكأنه يشكل استدارة سعودية في التعامل مع إيران بما فيه من خطب ود الإيرانيين ومحاولة التخفيف من حدة الأزمة بين البلدين.
وبالمثل دفع التمسك الإيراني بالحقوق السيادية، الرئيس الأميركي بايدن للجلوس إلى طاولة المحادثات (ولو بشكل غير مباشر) ضارباً بعرض الحائط البنود العشر التي كان ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، قد اشترطاها لبدء أية محادثات مع طهران.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فقد سرّب موقع «إيران إنترناشيونال» المعارض، الأسبوع الماضي، تسجيلاً صوتياً لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أشار فيه إلى «تدخلات القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني في المجال السياسي وأنه ضحى بالدبلوماسية من أجل العمليات الميدانية للحرس الثوري وبأنه كان يتلقى تعليمات من سليماني حول النقاط المتوجب التركيز عليها في أية مفاوضات دبلوماسية من أجل نجاح ساحة المعركة».
ولقد سبب هذا التسجيل بلبلة في المشهد الإيراني وحدا ببعض المسؤولين سيما المقربين من الحرس الثوري إلى الرد على الكلام المنسوب إلى ظريف. فقد أعلنت وكالة «فارس» المقربة من الحرس الثوري أنه «لم يكن خافياً على أحد اختلاف مواقف ظريف مع التوجه العام للثورة الإيرانية وبالطبع أصبحت أكثر وضوحاً بهذا التسريب الصوتي».
الرئيس روحاني، من جهته، طلب تدخل المخابرات لمعرفة الجهة المسؤولة عن التسريب معتبراً أن من سربه «معاد لإيران ومصالح الشعب الوطنية ويهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي». أما مستشار رئيس مجلس الشورى حسين أمير عبد اللهيان فقد قال في معرض تأكيده على أهمية ساح المواجهات في تقرير السياسة أن «إيران على الأرض هي العمود الفقري للدبلوماسية». واستدعت لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني ظريف لمساءلته عن التسريب الصوتي حيث أُعلن يوم الخميس عن امتثاله أمام اللجنة لتقديم الإيضاحات الضرورية.
ومن المتوقَع أن تؤثر ارتدادات التسريب الصوتي على توسيع رقعة الخلافات بين تياري المحافظين والإصلاحيين قبيل الانتخابات الإيرانية المقررة في حزيران (يونيو) المقبل. وإذا كان بعض المراقبين، يرى في ظريف «عبد الحليم خدام» إيراني، أي أنه مجرد دفرسوار متقدم في وجه سياسات الحرس الثوري، يذهب البعض الآخر إلى أن ظريف هو عراب نجاحات السياسة الخارجية الإيرانية والتي تقترب من إحراز نجاح قريب آخر في إعادة إحياء الاتفاق النووي قبل الانتخابات الإيرانية، مما سيشكل رافعة أساسية لاحتفاظ الإصلاحيين بالسلطة لولاية رئاسية ثالثة.
Leave a Reply