عاتبني أحد الأصدقاء الأسبوع الماضي، لأني لم أكتب في ذكرى قانا وشهداء قانا. ألا يستحقون، على الأقل، ألا ننساهم؟
في هذا الزمن العربي الغريب العجيب، الذي يبدو أمسه أجمل من حاضره، لربما نسيان الذين ماتوا أو استشهدوا هي مكرمة لهم. دعوهم يرتاحون في سكون الأبدية من الآلام والمعاناة التي يعيشها العربي سواء هنا في وطنه الجديد، أو هناك في بلاد «الكرب» أوطاني.
مجزرة قانا حدثت في 18 نيسان 1996 عندما قصفت إسرائيل معسكراً لقوات حفظ السلام الدوليَّة سقط ضحيتها ضباط دوليون ومدنيون أبرياء من لبنان. مجزرة طوتها السنون كغيرها من المجازر، رغم أنها عار على الضمير الإنساني في كل مكان وتحت غطاء الأمم المتحدة لتجريم الحمل وتبرئة الذئب.
الذين ماتوا، ارتاحوا، وذكرهم لا يجب أن يختصر في المآدب والخطابات المكررة كل عام، إنما إحياء ذكراهم يكون بتوعية جيل الشباب، الجيل العربي الثالث الذي نسي المأساة الكبرى التي حدثت قبل 70 سنة، مأساة الاحتلال الصهيوني لفلسطين العربية. والذي للأسف انصاع له الزعماء والملوك فوصلنا إلى زمنٍ صار فيه الإسرائيلي هو الصديق والفلسطيني هو العدو.
«طق شرش الحياء» كما يقول المثل، وصار العربي الخليجي يعرف عن إسرائيل، وينادي بحق إسرائيل بالحياة أكثر، من حق المواطن العربي الآخر، المسحوق بين فساد الحاكمين ونذالة المتزعمين، وصار محمود عبَّاس –أبو مازن– يلبس الأطقم الإيطاليّة والباريسيَّة، ويبوس اليد التي شردت شعبه كلاجئين في البلاد المجاورة، تحشر الملايين الفقيرة المهمشة في كانتون قطاع غزة، محرومين من حقوقهم كبشر، مسلوبي الإرادة أمام عدوٍ طاغٍ باغٍ لا يعرف الرحمة.
ما نفع الذكرى وتعليق صور الشهداء في هذا الزمن؟
من أين لهم الشجاعة، زعماء السلطة الفلسطينية في رام الله، من أين لهم الشجاعة للوقوف أمام المرآة والنظر إلى وجوههم تفيض نعيماً، بينما الملايين من الفلسطينيين يعانون جوعاً وعطشاً وذلاً تحت آلة القتل الإسرائيلية وتخاذل الحكام العرب؟ كيف استطاعوا نسيان مروان البرغوثي وعهد التميمي؟
ليرقد الأموات والشهداء في قبورهم، وليكن الالتفات إلى الجيل العربي الجديد الذي بات لا يعبأ بفلسطين بقدر ما يعبأ بحق المثليين بالزواج. ولا يعرفون «النكبة» ولا «النكسة» ولا يهمهم في إعلان القدس عاصمة إسرائيل شيئاً سوى معارضتهم للرئيس دونالد ترامب، شأنهم شأن الشباب الأميركي «التقدمي». إنهم لا يعرفون مجازر دير ياسين وبحر البقر وصبرا وشاتيلا وقانا وغيرها.
وبدلاً من أن يتبارى قادة مؤسساتنا، خاصة هنا في ديربورن، على إقامة الحفلات وإطلاق الخطابات مع أول إطلالة الربيع، كان عليهم دعم الفيلم الذي عرض في المتحف العربي الأميركي يوم الأحد الماضي. الفيلم بعنوان «3000 ليلة» – قضتها في السجن، امرأة فلسطينية شابة في سجون صهاينة العالم. كنت أتمنى لو تم دعوة طلاب الثانويات وسيدات المجتمع الديربورني، لمشاهدة ما يعانيه شعب مُغتصب الحقوق، ومأساة سيدات معذبات ومنسيات، مثل الفتاة عهد التميمي، التي لم يعد يذكرها أحد. ذنبهن العظيم هو غضبهن الساطع مقابل جزمة الجندي السالب للقمة عيشهن، وتحدِّي الكف العاري أمام الدبابة والبندقية.
لقد أبدعت الفنانة مي المصري في كتابتها وإخراجها للفيلم، ورمت بحصة في ركود ذاكرة الحضور الذي كان قليلاً جداً، وهذا أمر مؤسف. الفيلم أيضاً، بمثابة صدمة لنا جميعاً، نحن الذين نعاني من البطر والحيرة، كيف نعيش وماذا نأكل وماذا نلبس وأين نسهر ومع من نتخانق ومن نسمع من الناشطين الذين يتقنون استغلال المناسبات للضحك علينا والسخرية منا، بينما هناك شرفاء أبرياء يقبعون في السجون الإسرائيلية وفي السجون العربية أيضاً.
فيه أمل؟ أي فيه أمل! الأمل في نور، ابن بطلة الفيلم الذي وُلد في الزنزانة، في الأخير له الحياة وله الحرية مهما طال ووسع السجن.
Leave a Reply