مريم شهاب
خذني ازرعني بأرض لبنان
بالبيت ياللي ناطر التلة
افتح الباب… وبوِّس الحيطان
واركع تحت أحلى سما…. وصلِّي…. وصلّي
فعلاً أحلى سما هي سما لبنان. وأجمل وطن هو لبنان. وأطهر أرض هي أرض لبنان. رغم سنين الغربة، هو الوطن الحبيب لكل من شرب من مياهه وتنشق نسيمه.
فـي 14 نيسان ومن سنين عديدة تركت لبنان وهاجرت منه «حباً وطواعية» كما غنى مرسيل خليفة. عشت سنوات الحرب كلها فـيه؛ الحروب الأهلية والحروب الإسرائيلية والحروب الطائفـية والحروب العبثية. بقيت فـي بيتي «يلّي ناطر التلة» أصلي وأدعو الله أن يحفظ لنا هدوء القرية وبساطتها وطيبة ناسها. لكن يبدو أن السماء لم تسمع الصلاة، بعدما اختنقت بصياح الغاضبين الحاقدين، وشتائم المتدينين وعبث العابثين، ملأ السواد بعض القلوب وجرى فـي شرايينها دم القسوة المستعد للانفجار عند أصغر شرارة.
لم تهزمني الحروب فـي لبنان. هزمني السيئون فـيه. هزمني جاري الكهربائي عندما رجوته أن يصلح عطلاً تسبب فـي انقطاع التيار الكهربائي فـي يوم شتوي قارس فـي بيتي. فـي وقت الدوام كان يتسلّى بلعب الورق مع أصدقائه الذين لم يردوا عليّ التحية، وبكل برودٍ أجابني سوف يأتي عندما ينهي لعب دق الورق. ولم يأتِ بعدها أبداً. هزمني مختار الضيعة والموظفـون فـي الدوائر الرسمية عندما مرمروا قلبي لاستصدار إخراجات قيد لي ولأولادي. هزمني ابن بلدتي الموظف فـي الأمن العام حين فتح جارور مكتبه لأضع فـيه عشرون دولار كرشوة له لإنجاز معاملة فـي دائرته. هزمني سفهاء الدين وصبيانه وصراخهم فـي الليل والنهار من خلال مكبرات الصوت بترديد الخطابات الفارغة لزعيمهم الديني.
بمرارة تعودني تلك الذكريات. يمحوها آخر مشهد جميل أطبقتُ عليه أهدابي يوم الرابع عشر من نيسان، برعشيت ضيعتي الجميلة، تتلألأ بأزهار اللوز والبيلسان ومروجها وتلالها تموج باخضرار الربيع ونسائمه. كلما عاد إليّ هذا المشهد من قاع الذاكرة أسأل نفسي كيف تجرأتِ وتركتِ ذلك المكان الرائع؟؟
حتى آخر لحظة قبل دخول مطار بيروت الدولي، كان لدي أمل فـي أن أكون شُجاعة وألغي السفر وأعود من حيث أتيت. كنت مثل الروبوت أمشي دون أن أعلم ماذا أفعل ولماذا وإلى أين! فظاظة وقلة ذوق موظفـي المطار معي ومع غيري من المسافرين صدمتني وجعلتني أفـيق من كآبتي وأنتبه إلى أن صور الرئيس حافظ الأسد وابنه بشار «على مد العين والنظر» تملأ مطار بيروت الدولي آنذاك. هذا المنظر دفعني وبكل سذاجة لأسأل أحد المسافرين هل نحن فـي مطار بيروت أو فـي مطار دمشق؟ ألا تكفـي صورهم خارج المطار ضمن كوكتيل صور آيات الله وظلال الله فـي الأرض؟ بكل قسوة قلت لا أسف على هكذ بلد تخنق عاصمته المهملة صور الجلادين والسماسرة وأباطرة الحروب وزعماء الطوائف.
لن أنسى الحزن الذي داهمني وأنا أنتظر فـي صالة المطار الرثة حيث توقفت الساعة المعلقة على الحائط بتأثير قوة غامضة تصيب الحركة بالشلل. عشر دقائق وتصبح الثالثة. لكنها لن تكتمل وسوف تظل هكذا معلقة إلى الأبد لأن لا أحد يبالي للزمن ويهتم بإبدال بطارية الساعة. مطار متجمد فـي بلدٍ متجمد مثل الساعة المتجمدة، والناس طوابير مسافرون ومهاجرون بلا أمل إلى أي مكان.
الآن، وبعد هذه السنين العديدة المديدة من الهجرة، يعود نيسان كل سنة محملاً بالحنين والذكريات أكثرها معطر برائحة حارات برعشيت وأحيائها وبيوتها. الوطن لم يتغير. لبنان لم يتبدل. كيف يجرؤ بعض الكتاب ويسميه شبه وطن او مسخ وطن؟ العيب ليس فـي الوطن، العيب فـي «قرطة العالم» بعض اللبنانيين الذين لا يليق بهم صفة لبنان.
أي وطن رائع يمكن أن يكون لبنان؟ الوطن الصغير الجميل، لو صدق أبناؤه وطابت نفوسهم وقل كلامهم وزاد عملهم وصغرت جيوب زعمائهم؟؟!
Leave a Reply