لم يكن انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة صادماً نظراً للخطوات الانعزالية التي أقدمت عليها الإدارة مؤخراً. كذلك فإن مبررات الانسحاب التي ساقتها السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي –الثلاثاء الماضي– لم تكن مفاجئة، فوصفها للمجلس بـ«المنافق والأناني» قد لا يعني شيئاً كثيراً، بمقابل توصيفه الآخر، بأن لديه «تحيز مزمن ضد إسرائيل»!
ها هي أميركا تواصل انسحاباتها المثيرة من الاتفاقات الدولية المتعددة الأطراف، فبعد انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ واتفاق إيران النووي، ها هي أخيراً تترك مقعدها فارغاً في المجلس الحقوقي بجنيف، بعدما قاطعته لمدة ثلاث سنوات خلال عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قبل أن تعود إليه في عهد الرئيس باراك أوباما في 2009، في دلالة إضافية، شبه مؤكدة، على التقاطعات بين إدراتي بوش وترامب، اللتين تتميزان بانتهاك فاضح للحقوق والحريات المدنية، داخل أميركا وخارجها، فضلاً عن استهتار كلتا الإدارتين بالأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، يبدو الموقف الروسي أكثر المواقف الدولية فهماً لمعنى الانسحاب ودلالاته، حيث أدانت موسكو ما أسمتها «وقاحة» الولايات المتحدة و«استهتارها» بالأمم المتحدة، مشيرة إلى أن الأميركيين «يرفضون بقوة، الاعتراف بوجود مشاكل خطيرة تتعلق بحقوق الإنسان في بلدهم»، ناهيك عن أدوارهم المباشرة أو غير المباشرة في الصراعات المسلحة في العديد من الأماكن حول العالم، وما ينتج عنها من قتل ودمار وتفتيت للكيانات السياسية والبنى الاجتماعية يفرز موجات متلاحقة من المهجرين واللاجئين الذين تأنف أميركا من استقبالهم أسوة بدول العالم الأخرى.
وآخر فصول انتهاكات الحقوق المدنية، ظهرت بشكل لا لبس فيه، حين عمدت السلطات الأميركية إلى نزع نحو ألفي طفل عن آبائهم واحتجازهم في أقفاص بمخزن جنوب ولاية تكساس، وسط إجراءات مشددة حالت دون تمكن الصحفيين من التقاط الصور أو التحدث لأي من الأطفال المحتجزين أو آبائهم.
وما يثير في هذه القضية، ليس انكشاف زيف قيم الديمقراطية والحريات المدنية في بلاد العم سام وحسب، وإنما السلوك الوحشي الدنيء لوكالات إنفاذ القانون، حيث يبرر أفراد دوريات الحدود في وادي ريو غراندي بتكساس أفعالهم تحت عنوان «تطبيق القانون» وما القبض على المهاجرين وفصلهم عن أطفالهم، إلا إجراء رادع للآخرين!
وهذا ببساطة يعني أن متزعمة العالم الديمقراطي، تعمد إلى الانتقام من المهاجرين غير الشرعيين من خلال فلذات أكبادهم. ويعني أيضاً –بلا استعارات بلاغية– أنها تنتزع تلك الأكباد من جوف أصحابها وترميها في عتمة المعتقلات ودور رعاية الأطفال لعرضهم للتبني. لو لم يكن جبين «تمثال الحرية» معدنياً لتصبب عرقاً من الخجل والعار!
صور تلك الأقفاص، تعيد إلى الذاكرة أقفاص العبودية التي كان يوضع فيها الأطفال الذين يُنتزعون من أهلهم عنوة ليجري بيعهم لاحقاً في أسواق النخاسة. في ذلك الوقت استعان مسؤولون أميركيون بالإنجيل لإيجاد مبررات لاستعباد الآخرين ولفصل الأولاد عن أهاليهم في ظل النظام القائم، كما استثمرت وصية الرسول بولس بوجوب «طاعة قوانين الحكومة لأنها جاءت من الله لإحلال النظام»، وقد عاد هذا الاستثمار قبل أيام مع وزير العدل الأميركي جيف سيشنز الذي استخدم العبارة نفسها لتبرير القرار الذي أدى ما بين 5 أيار (مايو) و9 حزيران (يونيو) إلى فصل 2342 قاصراً عن أهاليهم وذويهم، أي ما يعادل أكثر من 66 قاصراً في اليوم، حسب وزارة الأمن الداخلي.
هذا التلطي وراء الخلطة الدينية–الأمنية–القانونية لانتهاك بديهيات حقوق الإنسان ليس مستجداً على أميركا، التي صادف انسحابها من مجلس حقوق الإنسان مع «اليوم العالمي للاجئين».
وبالعودة إلى مبررات هايلي وأعذارها، التي هي بلا أدنى شك أقبح من الذنوب، فقد عزت الانسحاب إلى «التحيز المزمن ضد إسرائيل»، وكأن أميركا بريئة من التحيز المزمن للدولة العبرية.
وقالت «ظل مجلس حقوق الإنسان لفترة طويلة حامياً لمنتهكي حقوق الإنسان ومكاناً للتحيز السياسي» معتبرة أن مجلساً يضم دولاً تنتهك حقوق الإنسان مثل الصين وكوبا وفنزويلا والكونغو «لا يستحق الاسم الذي يحمله». في هذا السياق أيضاً تترسخ علامة أميركا الفارقة: ازدواجية المعايير!
فأميركا لم ترَ انتهاكات حقوق الإنسان إلا في تلك الدول، وكأن حلفاءها في إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر، هم عرابو الحقوق المدنية في العالم، أو كأنها لم تسمع عن مجازر إسرائيل المستمرة بحق المتظاهرين الفلسطينيين العزل، والتي كان آخرها في مسيرات العودة بذكرى النكبة السبعين، والتي أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة الآلاف في أيار الماضي.
كأن هايلي لم تسمع عن التحالف الذي تقوده السعودية ضد اليمن منذ نحو ثلاث سنوات، والذي يسفر يومياً عن مقتل المدنيين وتشريدهم، إضافة إلى الإمعان في تدمير البنى التحتية للبلاد التي يقف الملايين من أطفالها على حافة الجوع والكوليرا والهلاك، بلا معيل أو معين.
بل إن أميركا، قلب الديمقراطية في العالم، وفي أعقاب أوامر ترامب التنفيذية بحظر السفر من سبع دول إسلامية، رفضت بعناد منقطع النظير طلبات اليمنيين الأميركيين بإدخال عائلاتهم وأطفالهم إلى الولايات المتحدة، بعدما تقطعت بهم السبل في أثيوبيا وجيبوتي وغيرها من الدول الإفريقية، ولم تفلح جهود المنظمات الحقوقية ولا أعضاء الكونغرس عن تحقيق أي تقدم في هذا الملف الإنساني.
والمفارقة أن هايلي لم تعتبر انسحاب بلادها «تراجعاً عن التزاماتنا بشأن حقوق الإنسان»، وإذا لم يكن الأمر كذلك فعلاً فما الذي أوقد حماسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي سارع في اليوم التالي إلى إصدار بيان يصف الانسحاب الأميركي بأنه «يشكل تصريحاً لا لبس فيه بأنه قد طفح الكيل» شاكراً وزير الخارجية مايك بومبيو والسفيرة نيكي هايلي، معتبراً أن المجلس أثبت على مدار سنوات طويلة «أنه جهة منحازة ومعادية لإسرائيل تخون رسالتها المتمثلة بالدفاع عن حقوق الإنسان».
وفي الختام يبقى السؤال: متى يفهم الإسرائيليون والأميركيون أن الدفاع عن حقوق الإنسان لا يستقيم ولا يتمتع بأي مصداقية، إن لم يشمل فضح دولة الاحتلال الإسرائيلي ونظامها العنصري الوحيد من نوعه في عالمنا اليوم؟
Leave a Reply