أسفر أعنف هجوم كيماوي عن مصرع ما يزيد عن مئة شخص اختناقاً، بينهم عشرات الأطفال، في مدينة خان شيخون بمحافظة إدلب، شمالي سوريا، الواقعة تحت سيطرة المتمردين. وكما هو متوقع فقد سارع الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون إلى إطلاق حملة واسعة من الشجب والإدانة ومحاولة إلصاق الجريمة النكراء بالحكومة السورية، فيما قال وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون إن الرئيس بشار الأسد سيعتبر «مجرم حرب» في حال إثبات مسؤولية نظامه عن الجريمة.
في الميزان السياسي، جاء هجوم خان شيخون بتداعياته ليزيد الضغوط على الرئيس دونالد ترامب وإدارته ودفعهما لاتخاذ مواقف أكثر صلابة إزاء الحرب في سوريا بعد إعلانها مواقف إيجابية تجاه دمشق.
وسواء كانت مجزرة خان شيخون مدبرة أم لا، فإنها منحت المتعطشين للحرب في أوروبا والولايات المتحدة والمحيط العربي والإقليمي زخماً مفقوداً، لإعادة إحياء فكرة التدخل العسكري في سوريا بقيادة الولايات المتحدة علّهم يتداركون الهزيمة بعد أن باتت الكفة تميل لصالح الأسد وحلفائه.
ومن المفيد الإشارة إلى أن الهجوم الكيماوي، كما معظم المجازر التي هزت العالم خلال سنوات الحرب السورية، وقع بالتزامن مع ازدياد الحراك الدبلوماسي للحل السياسي للأزمة السورية، سواء في بروكس أو أستانة أو بروكسل.
ورغم غياب المنطق في الاتهامات التي سيقت ضد الحكومة السورية، أصرت ماكينة الإعلام الغربية الضخمة على تبني وترويج فرضية اتهام الأسد مستندةً إلى مصادر مشكوك بصدقيتها مثل «المرصد السوري لحقوق الإنسان» و«الخوذ البيض» وغيرها من المراكز الإعلامية المنخرطة في العدوان على سوريا، دون تقديم أي دليل على روايتها المليئة بالثغرات.
فحتى «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، الذي يعرف صاحبه كل شاردة وواردة على الأرض السورية، وهو على كنبة منزله في إحدى ضواحي لندن، لم يتمكن من تحديد نوع الغاز المستخدم في الهجوم فيما قال «مركز إدلب الإعلامي» التابع للمعارضة أيضاً إنه تم استخدام غاز السارين السام.
في الواقع كيف يمكن أن نصدق رواية الإعلام الغربي في ظل رصيده الحافل بالأكاذيب والخداع، لاسيما في غزو العراق عام 2003 عبر ترويج أكذوبة أسلحة الدمار الشامل وشيطنة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهو ما أوصل بلاد الرافدين إلى ما وصلت إليه اليوم من فوضى وإرهاب ناهيك عن ظهور تنظيم «داعش» التكفيري الذي بات يهدد الأمن العالمي برمته.
كان لافتاً في تقارير الإعلام الغربي، سواء الأميركي أو الأوروبي، عشية غزو العراق، غياب أي تشكيك بالمصادر التي نشرت معلومات خاطئة ومضللة مهدت لاجتياح عام 2003، ويبدو أن السيناريو نفسه لازال حاضراً في ذهن المتعطشين للحرب والراغبين بالإطاحة بالدولة السورية.
فخلال ساعات معدودة أعقب هجوم خان شيخون، أطل هؤلاء برؤوسهم عبر شاشات القنوات الكبرى ليطلقوا التهديدات والتحريض على سوريا بتحميل نظام الرئيس بشار الأسد مسؤولية الهجوم الكيماوي، حيث تساءل النائب الجمهوري عن إلينوي آدم كينزينغر عبر «سي أن أن» عما يمكن فعله «لإسقاط النظام»، مقترحاً شن حملة عسكرية لتدمير المطارات السورية وفرض حظر جوي بالقوة لمنع تكرار هذه الهجمات ومن ثم الإطاحة بالأسد.
هذا النوع من التصريحات لا يجوز التغاضي عنه إطلاقاً، لاسيما وأنه يستند إلى جملة من الأكاذيب.
أما السناتور الجمهوري عن أريزونا جون ماكين، فقد استغل الهجوم ليصب انتقاداته على تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تليرسون في أنقرة حيث تبنى الموقف الروسي الداعي المبدئي بترك مصير الأسد ليحدده السوريون، فأثارت كلمات تليرسون زلزالاً سياسياً في المنطقة والعالم مما تطلّب هجوماً وحشياً كالذي استهدف الأبرياء في خان شيخون لاحتوائه واحتواء اندفاعة إدارة ترامب للتفاهم مع روسيا والتخلي عن هدف الإطاحة بالرئيس السوري.
المتعطشون للحرب لم ينتظروا التحقيقات فسارع البيت الأبيض والكونغرس بحزبيه وإسرائيل وبريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى إدانة الحكومة السورية والرئيس الأسد فيما لم يحرك أحد منهم ساكناً عندما أسفرت غارة أميركية على اليمن –الشهر الماضي– عن مقتل 20 يمنياً وسط تجاهل تام من قبل الحكومات ووسائل الإعلام الغربية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصحفي البريطاني سيمور هيرش وثّق خلال تحقيقاته قيام مجموعات إرهابية مدعومة من تركيا والسعودية بتنفيذ هجوم كيماوي سابق في سوريا، كما كشف أن الأسلحة الكيماوية التي استخدمت في ذلك الهجوم تم نقلها من ليبيا إلى المسلحين المدعومين من قبل الولايات المتحدة إلى سوريا برعاية وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أي) ووزارة الخارجية تحت إدارة هيلاري كلينتون.
ورغم كل الوثائق التي قدمها هيرش وغيره من الصحفيين الموثوقين، يصرّ الإعلاميون الغربيون عموماً على تجاهل الحقائق والقفز فوقها ككلاب مدربة، فلا يطرحون الأسئلة الصعبة ويغيّبون وجهات النظر الأخرى، ويمعنون في ترويج المعلومات التي سبق وأن تم دحضها. ومن دون أي خجل، يفتحون الهواء لسموم شخصيات ومصادر لطالما عرفت بتأييدها للتدخل العسكري في سوريا.
في المحصلة، يمكن القول إن إمكانية أن تكون الدولة السورية هي المسؤولة عن الهجوم الكيماوي في خان شيخون تقارب الصفر.
لماذ؟ لأنه ببساطة ليس لدى الحكومة السورية من تربحه من هجوم كهذا بل هناك الكثير لتخسره، فالجيش السوري وحلفاؤه يواصلون تقدمهم الميداني على أكثر من جبهة فيما تتكبد الجماعات الإرهابية خسائر متلاحقة.
كما أن إدارة ترامب أعلنت –الأسبوع الماضي– أنها لن تعمل على إسقاط الأسد تمهيداً لإطلاق محادثات سلام جدية لإنهاء الحرب، فمن يكون المستفيد من هذا الهجوم المريع؟
Leave a Reply