إنّ ما حصل قبل أيام قلائل من تفجير إجرامي لكنيسة القدّيسيّن في الإسكندرية بمصر، وما حصل قبلها من تفجير لكنيسة سيدة النجاة في بغداد، وما يحصل بين فترة وأخرى من تفجيرات لجوامع ومساجد في أماكن مختلفة.. كل ذلك يستوقفنا للتفكير في خلفيات وأبعاد هذه الأحداث المؤسفة، ويدفعنا لإبداء ما يلي:
أولاً: إنّ القرآن الكريم قد مدح النصارى من أهل الكتاب، كما يظهر في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ • وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} المائدة 5/ 82 – 83 .
وهذه الآية تدل على انّ الإسلام حريصٌ على المسيحيين المنفتحين الذين يتعايشون معنا، والذين يعيشون روحية المواطنة السليمة في البلاد العربية والإسلامية. وإلى جانب حرصه على تحقيق التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك بينهم وبين اليهود ممّن لا يعتدون ولا يمارسون الظلم، يحرص الإسلام أيضاً على تحقيق التعايش بين كل الطوائف وكل الأمم، كما يدل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 49/13.
ثانياً: حينما يتمّ تفجير الكنائس في العالم الإسلامي، فهذا أمرٌ خطير لأبعد الحدود، وهو يخالف الوصية التي جاءت عن رسول الله (ص) والتي تحثّ على حماية أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين يعيشون في البلاد الإسلامية، حيث قال (ص) في الحديث المشهور عنه: “من آذى ذميّاً فقد آذاني”.. فأي إيذاء لمسيحيٍّ أو يهوديٍّ لا يمارس الظلم أو الإعتداء على أحد، هو إيذاء لرسول الله (ص).. وإيذاء رسول الله (ص) هو إيذاء لله عزّ وجلّ، وهو إيذاء لكل المسلمين. صحيح أننا لانوافق المسيحيين واليهود على بعض ما يعتقدون به.. ولكن هذا شيء، وحمايتهم من قِبل المسلمين شيءٌ آخر، فحمايتهم من قِبل المسلمين تعد أمراً واجباً وضرورياً..
ثالثاً: إنّ ما جرى في الإسكندرية تحديداً يثير الدهشة، ويجعلنا نشكُّ في الأيدي التي وقفت وراءه.. وهناك عدة فرضيات بشأن ذلك:
الفرضية الأولى: يمكن أن تكون أيادٍ غير مصرية وراء هذا التفجير، للسببين التاليين:
1- لأنّ الحكومة المصرية كشفت مؤخراً عن شبكة تجسس إسرائيلية، وهذا مما يقوّي الإحتمال بوجود شبكات تعمل لإيجاد الفتنة في مصر بين المسلمين والمسيحيين.
2- لأنّ البابا شنودة، بابا الأقباط في مصر، أعلن أكثر من مرة أنه يحرم على أتباعه المسيحيين أن يزوروا إسرائيل.. وهذا الأمر يُعتبر فتوى خطيرة من قِبَل البابا شنودة بالنسبة إلى إسرائيل، ولم يقُلها حتى بعض علماء المسلمين.. وموقف البابا العروبي هذا هو موقف لافت ومهم.. ونحن لانستبعد ان يقصد الفاعلون من خلال ذلك تحقيق أكثر من هدف: كأن تبتغي إثارة الفتنة، وإضعاف البابا والمسيحيين في مصر، وإغراق المصريين بهذه المشاكل ..
الفرضية الثانية: ربما يكون الفاعلون بعض الإرهابيين الذي يدّعون بأنهم ينتمون إلى الإسلام، ونحن لا ندري من هم هؤلاء؟ هل هم فعلاً إرهابيون مسلمون؟ أم غير ذلك؟.. وفي آخر بيان للتنظيمات الإرهابية صدر من العراق، بعد تفجير كنيسة سيدة النجاة في بغداد، قالوا بأنهم سيستهدفون كنائس أخرى في الشرق الأوسط ومنها مصر، بحجة انّ المسيحيين في مصر يحتجزون المرأة المسيحية عند اعتناقها الإسلام.. ونحن لم نتأكد من صحّة هذا الإدعاء، ولنفترض أنه صحيح فهو لا يشكل مبرراً للقيام بهذه الأعمال الإرهابية، والإقدام على قتل وجرح عشرات الأشخاص الأبرياء بهذا الشكل البربري.. بل يمكن في هذه الحالة اللجوء إلى القضاء، لأنّ مصر دولة لها قانون، وهو كفيلٌ بالدفاع عن حقوق مواطنيها. ونحن نعلن من هنا إدانتنا لهذا التفجير الإجرامي ولهذا الفعل الشنيع بشدّة، وإدانة الأيدي الملوّثة بالدم التي تقف وراءه، وننوّه بموقف الإدانة الصارخ الذي صدر عن سماحة شيخ الأزهر صديقنا العلامة الدكتور الشيخ أحمد الطيبي..
الفرضية الثالثة: إحتمال وجود مخابرات عالمية سرّية تقوم بإشعال الفتن في الشرق الأوسط وغيره..
لذلك نحن نشجب هذه الأعمال الإجرامية، ولاسيما حينما توجّه ضد المسيحيين، لأنها تريد فعلاً إفراغ العالم الإسلامي منهم، كما أُفرِغ سابقاً من اليهود الذين خُوِّفوا وأُرعِبوا فتوجّهوا نحو فلسطين وتجمّعوا فيها قبل احتلالها.. والآن تستهدف اللعبة تهجير المسيحيين، من أجل إظهار العالم الإسلامي بصورة سيئة، وكأنه عالم متوحّش لايمكن أن يتعايش مع الأديان الأخرى.. وهذا أمر خطيرٌ جداً ومرفوض.. لذا فإنّ على المراجع الدينية والمسؤولين السياسيين والزعماء إدانة هذه الأعمال الشائنة، والعمل يداً واحدة لإيقاف هذه الموجة الخطيرة التي تُشين صورة الإسلام، إنْ كانت فعلاً قد حدثت بأيدي مسلمين..
لقد عاش اليهود وعاش المسيحيون طيلة ألف سنة في البلاد الإسلامية، ولم يتعرّضوا خلالها للأذى، إلاّ ما حصل في بعض الحالات الإستثنائية من تصرفات عدوانيّة قام بها حكّام طغاة لم يُفرّقوا في طغيانهم بين المسلمين والمسيحيين واليهود.. وذلك لا يُعبّر بالتأكيد عن موقف الإسلام، الذي قدّم دوماً نموذجاً مشرقاً في التعايش الإسلامي المسيحي وفي التعايش الإسلامي اليهودي أيضاً، وفي الإعتراف بالأديان الأخرى. ومن هنا ينبغي للمسلم، أينما ذهب، أن يعتز بإيمانهم إذ لاتوجد لديه مشكلة في التعامل والتعايش لا مع المسيحي ومع اليهودي، إذ هو يمتلك ديناً ذا آفاقٍ واسعة يركز على احترام العلم والعقل والعدالة والإنسانية وحقوق البشر..
ونحن ندعو هنا لقراءة وثيقة الحقوق الواردة عن الإمام زين العابدين (ع)، المسطّرة قبل أكثر من ألف سنة، التي تناولت حقوق الإنسان، بشكلٍ يفوق ما سطّرته وثيقة حقوق الإنسان في شرعة الأمم المتحدة.. للتأكيد على أن الإسلام حافظ على حقوق الإنسان وحقوق أهل الأديان ودافع عن كرامة البشرية.
مكتب المرجععية
Leave a Reply