ضرب الإرهاب فـي قلب باريس يوم الأربعاء ٧ كانون الثاني (يناير) عندما قتل ثلاثة مسلحين ملثمين ١٢ شخصا خلال هجوم مباغت على مكتب الصحيفة الأسبوعية الكاريكاتورية الساخرة الفرنسية «شارلي أيبدو». وهرعت تقارير وسائل الإعلام لوصف الجريمة بأنها «هجوم من قبل الإسلاميين المتشددين» لأن الصحيفة كانت قد نشرت الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص)، على الرغم من أن المشتبه بهم الذين فروا من مسرح المجزرة ما زالوا طلقاء.
من الناحية المبدئية، بغض النظر عن هوية ودوافع الفاعلين، هذه الجريمة الوحشية دنيئة وبربرية بكل المقاييس وغير مبررة ويجب إدانتها بشدة من قبل كل الجالية العربية والإسلامية. وفـي «صدى الوطن» نشعر بالأسى الشديد وبالتعاطف مع الضحايا الإعلاميين والأبرياء الذين مارسوا مهنتنا المليئة بالمتاعب، وندين هذه الجريمة بشدّة.
وإذا كان الهجوم ردَّاً على نشر الرسوم المسيئة للرسول الأعظم، كما ادعت معظم وسائل الإعلام، فهو جريمة ضد كل المسلمين فـي كل مكان بل جريمة أكبر بحق النبي محمد نفسه، الذي بشَّر بالتسامح ودعا أتباعه إلى الامتناع عن سلوك وعقلية الانتقام والقتل والغدر. من المشين فعلاً ارتكاب هذه المجزرة فـي ذكرى المولد النبوي الشريف. لقد تعرَّض النبي العربي لأقسى أنواع الاضطهاد من قبل أهل مكّة خلال نشر الدعوة الاسلامية حتى قال بنفسه انه لم يُؤذَ نبيٌّ من قبل كما أوذي هو، ومع ذلك اثناء فتح مكّة حين أعلن أصحابه انه «يوم الملحمة» سارع بالقول لهم انه «يوم المرحمة».
من ناحية ثانية لا ينبغي إهانة الرموز الدينية، سواء من خلال الهزل أو الجد، ولا يجب انتهاك حرمة الأنبياء بدءاً من النبي آدم وحتى النبي محمَّد (ص)، ولا يجوز الاستمرار فـي أذية الرسول حتى بعد وفاته. لأن الخطاب لا يمكن أنْ يُعالج إلا بالخطاب المضاد والحجج والنقاش والأدلة الدامغة لدحض الأقاويل والأفكار الفتنوية الهدَّامة والتحريضية بالفكر والمنطق والممارسة العقلانية الصحيحة، والدين الاسلامي لا تنقصه لغة ولا علوم ولا حجج للرد على الترَّهات. فالهجوم على باريس لا ُيكسِب الإسلام توقيراً وتبجيلاً كما يستحق، بل سيعزِّز فـي الأذهان الحاقدة لتوها الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة عن الدين ونبيه. فإذا نُفِّذت هذه الجريمة من قبل المتطرفـين الذين يسمون أنفسهم مسلمين، فإنها ستضر بصورة المسلمين ودينهم الذي يرفض قتل النفس التي حرمَّ الله قتلها.
التفكير المتعصِّب ينمِّي بذرة التطرف، الأمر الذي يؤدي إلى العنف الإجرامي الإرهابي الذي لا يلتزم بالحدود الدينية ولا بالمنطق أو الأخلاق أو تعاليم الدين.
نحن نرفض أي جريمة عنف تُرتكب باسم الإسلام- دين السلام والحوار والتفاهم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإلى كلمة سواء بين كل البشر والأديان.
إلا أنَّ المستهجن فـي ردود الفعل على هذه الجريمة المروعة هو انتقائيتها من دون إدانة واستنكار الجرائم الإرهابية التي هي من نفس الصنف فـي البلاد العربية خصوصاً فـي سوريا والعراق واليمن وليبيا حيث يسقط كل يوم مدنيون أبرياء عزَّل مسالمون لا شأن لهم بالقتال أو الحروب، وآخرها فـي صنعاء
حيث أدت عملية انتحارية إرهابية الى قتل العشرات من المواطنين. الدم الغربي ليس أغلى من الدم العربي والإرهاب لا دين ولا طائفة له.
كما أنَّ الغرب وخاصةً أوروبا التي تكتوي بنار الإرهاب اليوم بسبب سياساتها الخاسرة فـي الشرق الأوسط من تدمير ليبيا إلى تصدير المسلحين ودعمهم فـي سوريا والعراق، تبيَّن انها ليست محصنة ومنيعة ضده، وبهذا تكون «جنت على نفسها براقش» كما يقول المثل.
التاريخ يعيد نفسه، فكما زُرعت بذرة الإرهاب فـي أفغانستان تحت شعار محاربة السوفـيات، ارتكب الغرب نفس الخطأ المميت حين ساعدوا الإرهابيين التكفـيريين من دون الانتباه الى خطرهم الذي يطال العالم أجمع، إلى أنْ وصل الدب التكفـيري إلى كرمها وحصل ما حصل.
هناك مثل آخر يقول «من يزرع الريح يجني العاصفة»، وإذا لم تسارع فرنسا والغرب عامةً الى تجفـيف منابع الإرهاب بجد وواقعية، فإنَّ الهجوم على الصحيفة الباريسية ليس الأول ولن يكون الأخير بحسب تحليلنا لأجندة الإرهابيين وما يرتكبونه فـي مسلسل إجرامهم الطويل.!
Leave a Reply