مريم شهاب
فـي إحدى المدارس، وفـي اليوم المخصص لمقابلة الآباء مع المعلمين، جلس بعض تلاميذ الصف الثاني الإبتدائي فـي مكانٍ مخصص لهم. قال أحدهم: أبي طبيب جراح مشغول جداً فـي مستشفاه ليس لديه وقت للحضور. ثم قال آخر: أوه، أبي رجل أعمال، لن يقدر على المجيء بسبب أعماله الكثيرة. تلميذ آخر قال: أبي فنان مشهور جداً وهو الآن موجود خارج البلد. وهكذا راح الصغار يبرِّرون عدم حضور آبائهم، حتى وقف واحد منهم وأشار إلى أبيه الجالس فـي المكان المخصص للأهل وبكل فرح وبراءة قال: هذا أبي!!
«إنخراط الأهالي بالعملية التربوية مفتاح نجاح مدارس ديربورن العامة»، كان هذا عنوان «لنا رأي» فـي هذه الجريدة الأسبوع الماضي، وهو بلا شك صحيح، وموضوع هام جداً لجاليتنا فـي ديربورن، حيث الأبناء هم إستثمار المستقبل لوجودنا، خصوصاً فـي زمن الإنهيار الفظيع فـي بلاد الشرق.
تربية الولد فـي سنينه الأولى هي مسؤولية الأهل والأب بصورة خاصة، والذي يتعلمه الطفل فـي تلك السنين له تأثيره فـي مجرى حياته طول العمر. من حسن حظي أني نشأت فـي كنف أبٍ فلاح بسيط أمِّي، لا يقرأ ولا يكتب. أمضيت العشر سنوات الأول من عمري معه وحوله، فـي الصيف وفـي الشتاء، فـي البيت وفـي الحقل. لم تكن طفولتي مميّزة؛ تعب وفقر ومعاناة، لكنها كانت طفولة سعيدة. لا بل أعتبرها أجمل سنوات عمري، حين أتذكر أبي الطيب مثل شجرة مثمرة تأوي إليها العصافـير الضالة. عاش ستين عاماً يحلم بالراحة بعد عناء التعب، حتى أغمض عينيه بكل بساطة وهدوء ورحل. من تجارب أبي وحكمته تعلمت. فـي إحدى أمسيات الشتاء، جلست بقربه وكان يشوي حبّات البطاطا. وبكل خفة التقط حبة بطاطا ساخنة جداً وأعطاني إياها. بسرعة تلاقفتها وأعدتها إليه. إبتسم لي وقال: هذه هي مشاكل الدنيا، أي إنسان يحاول إهداءك مشاكله الساخنة، ردِّيها له. وهكذا تعلمت الدرس الأول فـي الحياة. الدرس الثاني، كانت عندنا فـي البيت قطة وكنت أحبها وأدلّلها، لكنها فـي مرات كثيرة كانت تخمشني حتى ليسيل الدم أحياناً مني. قال أبي: قد نحب شخصاً حباً جماً، ويكون سعيداً بذلك، لكنه قد يؤذينا على حين غرّة وبلا مبرر، حين نتوهم أن القطة سعيدة ومسترخية ساعة تداعبينها، وفجأة تخمشك وتهرب. هذا الدرس تعلمته من أبي وأنا فـي السابعة، وهو الحذر وعدم هدر الذهب الذي كان يدعوه أبي الوقت.
لن أنسى مشواراً جمعني مع أبي إلى جبل «بلعويل». وهو جبل عالٍ فـي قريتنا، يطل على معظم بلدات الجنوب. كبنت عمرها عشر سنوات إنبهرت بالتلال والوديان والبلدات أنظرها من علو، متأملة النسائم والطيور وحركة الغيوم فـي الفضاء الواسع. قال لي أبي: هذه عظمة الخالق، إحمديه واشكريه على نعمة البصر والسمع والتأمل. إن الوصول إلى قمة هذا الجبل أمر هيّن أمام الذي يمكن أن يصل إليه فكر الإنسان فـي رحلة قصيرة إلى داخل نفسه، بدلاً من مواجهة الآخرين وتعداد أخطائهم وإحصاء هفواتهم. وهذا درسٌ آخر لرؤية الأشياء كما يجب، والثقة بالنفس ومحاسبتها قبل محاسبة الآخرين.
لا أنكر انني ارتكبت هفوات وأخطاء عديدة، ورغم ثرثرة الجيران والجارات حول ذلك، كان أبي يداري أفعالي «الصبيانية» بدون تذمر مردداً مثله الحكيم القديم: «قلب من ثلج، عقل من إسفنج، وخرج على الظهر». يعني الأعصاب الباردة للتعامل مع متاعب الحياة، مهما كان بهدوء، وعقل واعٍ يمتص الصدمات والآراء المختلفة، وعدم منح الأشياء أهمية أكثر مما تستحق و«حطّها بالخِرج».
رحم الله أبي الفلاح البسيط الطيّب الذي عاش على أرضه ولها. لم يترك وراءه ثروة سوى تجاربه وحكمته وعلاقاته السوية مع الفلاحين، انطلاقاً من تعبه وعرقه واحترامه لنفسه. وبعد هذه السنين العديدة المديدة، أجد نفسي مثل ذلك الولد فـي المدرسة وبكل محبة وفخر أشير إلى قلبي وأقول: هذا هو أبي!!
Leave a Reply