مريم شهاب
أبو جورج
مثل صخرة قوية وثابتة في بلدة برعشيت، عاش أبو جورج كل حياته، قوياً وصلباً، متفانياً في حب أهله وجيرانه وأرضه، عامراً صدره بالتسامح والمحبة للجميع. حتى في أشد اللحظات التي أفسدت الهواء فصار اللبنانيون يتنفسون الحقد والغل والبغضاء حتى الاختناق، بقي الفلاح البسيط الذي عاش في أرضه ولها، كمعظم أبناء جيله، ممن اتَّسعت صدورهم للألفة والود الصادق مع الناس.
عندما سمعت برحيل المرحوم أبو جورج، قلت هذه آخر مرة يموت فيها المرحوم أبي، فهو الأخير من الأهل الكبار الذين عاشوا وماتوا في أرضهم، حرثوها وغرسوها وكانوا مثل الأشجار العتيقة التي تأوي إليها العصافير الضالة.
المرحوم أبو جورج، الفلاح المسيحي، صاحب الابتسامة النقية الصافية مثل نبع العين، وصاحب النفس الزكية الرائحة، مثل الشمام البرعشيتي الذي كنتَ رائداً، أنت وولدك الأستاذ جورج، في زراعته وتطويره حتى صار علامة لقريتنا برعشيت.. أدعو الله لك بالرحمة في ملكوت السماء، وليرقد جسدك المتعب في تراب برعشيت، التي أحببتها وأحبتك.
أبو خضر
ابتسامته الرقراقة ووجهه المشرق دوماً بحمد الله ورضاه، والحس الفكاهي الساخر الذي لا تخطئه الأذن، ذكرتني بأبي الفلاح الساخر الذي كان يتعامل مع صعوبة الحياة وآلامها بخفَّة، فلا يشكو ولا يتذمَّر، والذي كان الكلام معه يجعلك تعتقد، لا بل تتأكد، أن الدنيا بخير!
تعرفت عليه من خلال عمله في أحد الأسواق العربية، جذبتني بسمته غير المتكلفة وحيويته الدائمة لمساعدة الزبائن، في وقت يبدي فيه الكثير من عمال الأسواق العربية غضبهم ويعبسون بلا سبب، إلى درجة أنهم لا يردون السلام.
قلت له هذا الأسبوع سوف أكتب لك تحية بمناسبة عيد الأب، كونه قارئاً متابعاً لمقالاتي الأسبوعية. اعترض قائلاً: أنا لا أستحق ذلك. ولكن من يستحق غيرك، يا سيِّد أبو خضر، الأب الذي يعمل بشرف وصدق لإعالة عائلته والذي لا ينتبه أحد إلى قاع حزنك كأب لشابين من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومع ذلك تفيض زهواً وفخراً بابنك الشاب المثابر الواعد والناجح، الأستاذ خضر فرحات. اسمح لنا جميعاً أن نشاركك الفرح والفخر به كون أن معظم الآباء يتمنون أن يكون إبنهما، رغم أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة. تليق التهنئة.. بك يا سيد أبو خضر، وكل عيد أب وأنت بألف خير.
أبو جينيفر
كانت السنوات الأولى بعد ولادة جنيفر، الابنة المعاقة والمتخلفة عقلياً، كانت جحيماً. أدمنت الأم على المهدئات والكحول لشدة ألمها على ابنتها. لم تستطع قطّ أن تتقبلها ولم تملك الفرصة كي تتباهى بها. احتضن الأب الإبنة ونذر حياته لأجلها ورضي أن يكون أباً لإبنة معاقة على مدى عشرين سنة. عنايته بها جعلت إنسانيته تكتمل لتلمس اللامتناهي من الحب والعطاء وبذل الذات، جعلته يتطهر من آثام الروح، الحسد والجشع والشراهة وعبادة الشهوات. إعاقتها علمته أن الحياة نعمة.
لقد انتزعت جينيفر من كيان أبيها -وهو مدير مهم في أحد الأقسام حيث أعمل- كل أشكال الشر والغرور، وجعلته يندم مراراً، حيث اعتقد أنها مصيبة وكارثة ألمت بحياته، وطالما آلمته نظرات الشفقة والشماتة لأن ابنته كانت تكبر وتكبر معها الإعاقة. لم تكن قابلة للتعلم إلَّا كطفل في الخامسة من عمره. عالمها عبارة عن كتاب فيه صور ودمى ولوح تخربش عليه دوائر لامتناهية ومشوهة. وعندما تصيبها نوبات الصرع المروعة، كان الأب الحنون يجثو أمامها متأملاً جسدها النحيل وهو يرتطم بالأرض. ومع الوقت تعلم كيف يجعل من حضنه وسادة وثيرة لرأسها وغطاء دافئا لجسدها المرتعش. في عيد الأب، تحية لأبي جينيفر، المنارة التي تضيء حولها دون أن تحترق.
Leave a Reply