محمد العزير
من الصعب في البيئة السياسية اللبنانية عادة، أن تفضي انتخابات أو أحداث أو تطورات إلى نتائج حاسمة. يتعذر في هذه الفسيفساء السياسية والطائفية والمذهبية المتنوعة حسم أي خيار أو تصنيف أية حالة مهما كانت المقدمات والملابسات. ففي لبنان، أمتن الروابط «شعرة معاوية» التي لا تنقطع لا سراً ولا جهراً، وهي كثيرة، لا بل سائدة إلى درجة لا تحصى، وهي بادية في الوقائع التي يمكن توثيقها لدى كل الأطراف، دون استثناء، والتي تنقلب معها المواقف فجأة ليتحول الخصم إلى صديق والحليف إلى غريم.
من باب الإنصاف القول، إن الأمر لا يقتصر على وليد جنبلاط، مضرب المثل في التقلبات، فالرئيس ميشال عون مثلاً خلال مسيرته انتقل من شعار تكسير رأس حافظ الأسد والتحالف مع صدام حسين إلى حليف دمشق المسيحي الأول في لبنان. أما مجرم مجازر صبرا وشاتيلا الراحل إيلي حبيقة تحول إلى «أبو علي» حبيقة ورأس حربة الممانعة قبل اغتياله، وحركة «أمل» و«حزب الله» اللذان اقتتلا أكثر من ربيعة ومرة في حرب البسوس أصبحا «الثنائي الشيعي»، وولي دم رفيق الحريري المعتكف حالياً سعد الحريري سحب كل اتهاماته ضد النظام السوري وذهب إلى دمشق فَرِحاً بتفاهم الـ«س–س» قبل أن يعود إلى سيرته الأولى… وقس على ذلك.
إلّا أن الانتخابات النيابية التي شهدها لبنان الأحد الماضي، عقب اقتراع المغتربين قبل أيام قليلة، أظهرت للمرة الأولى صورة مختلفة، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بالتوزيع غير الحاسم للبرلمان الجديد.
على المستوى المحلي، تعادلت القوى السياسية الكبرى دون أكثرية محققة لأحد، فدخل إلى الندوة النيابية للمرة الأولى عدد لا بأس به من مرشحي المجتمع المدني الذين اكتسبوا شيئاً من الشرعية الشعبية المستمدة من انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، التي لا تزال أصداؤها المعنوية والإعلامية تتفاعل بدرجات متفاوتة جعلت باب النيابة مفتوحاً أمام وجوه جديدة من خارج القيد العائلي أو الحزبي أو الطائفي.
وإذا كانت أسماء الرابحين الجدد مفاجئة للبعض وموضع ترحيب وتفاؤل إلى حد ما، فإن أسماء الخاسرين (القدامى) جاءت صادمة للكثيرين خصوصاً وأن القاسم المشترك الأكبر بينها هو الولاء الصريح والتحالف القوي مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد واللذان يعودان إلى أيام الرئيس الأب والوصاية السورية المباشرة على الحياة السياسية في لبنان، مع أن الراسبين كانوا يستندون إلى رافعة «الثنائي الشيعي»، أكبر تكتل انتخابي وصاحب أوسع قاعدة شعبية مضمونة في لبنان.
أطاحت أصوات الناخبين بوجوه تاريخية حليفة لدمشق من عكار في أقصى الشمال إلى العرقوب في أقصى الجنوب مروراً بالبقاع حيث فشلت محاولات اللحظة الأخيرة التي قيل عن عدم نزاهتها الكثير في إنجاح نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي هزمه الوجه الجديد غسان السكاف. وفي طرابلس خسر فيصل عمر كرامي مقعده النيابي أمام وجه جديد آخر هو رامي قنج (بفارق عشرات الأصوات)، وفي الجنوب وعلى لائحة الثنائي خسر الرئيس الفعلي للحزب السوري القومي الاجتماعي (رئيس المجلس الأعلى) أسعد الحردان الذي احتفظ بهذا المقعد منذ 30 سنة وشغل مناصب وزارية في خمس حكومات، وخسر حزبه مقعدين في الجبل والشمال ولم يعد ممثلاً في البرلمان. كذلك خسر المصرفي المعروف رئيس بنك الموارد مروان خير الدين (وريث خاله النائب أنور الخليل صديق دمشق) أمام الناشط فراس حمدان. وفي دائرة عاليه في الجبل، لم يتمكن طلال أرسلان من الاحتفاظ بمقعده في عقر داره وسقط أمام مارك ضو. وفي الشوف لم يتمكن حليف دمشق الأبرز وئام وهّاب من تأمين حاصل انتخابي للائحته التي لم ينجح منها أحد.
وكان النواب الخاسرون على مدى سنوات يلعبون دور الواجهة السياسية الفعّالة للنظام السوري في لبنان، وتسببوا أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة بأزمات أدت إلى تعطيل تشكيل الحكومات أو تعقيد عمليات التسمية والتأليف التي ينص عليها الدستور اللبناني من خلال مطالبتهم، بالتمثيل في الوزارة وبنيل حصص من التعيينات والتشكيلات خصوصاً عندما كانت مهمة تشكيل الحكومية تؤول إلى رفيق الحريري ومن بعده نجله سعد، وكان أرسلان يلعب الورقة ذاتها في وجه الزعامة الجنبلاطية للطائفة الدرزية.
وجاءت هذه النتائج في إطار ضمور واضح للنفوذ السوري في لبنان، فالمرشحون المقربون من دمشق من الناجحين خسروا الكثير من الأصوات التي صبت لمصلحة خصومهم. لائحة “المردة” التي يترأسها طوني سليمان فرنجية في زغرتا شمالاً لم تتمكن وللمرة الأولى من إيصال أكثر من نائب إلى البرلمان، بتراجع واضح عن الدورة السابقة، كذلك تراجع النائب جميل السيد من المرتبة الأولى في عدد الأصوات في دائرة بعلبك الهرمل الدورة الماضية (أكثر من 33 ألف صوت) إلى المرتبة الأخيرة بين الفائزين الشيعة هذه الدورة (حوالي 9 آلاف صوت، بفارق 6 آلاف صوت أقل من آخر الفائزين)، وهذا ما أثار حفيظته وجعله يتهم زملاءه في لائحة الثنائي بالعمل على تحجيمه. وكان لافتاً أن الناجي الوحيد من مرشحي دمشق النائب قاسم هاشم (حزب البعث العربي الإشتراكي) حصل على أقل من 1,200 صوت فقط، ولولا ضمان لائحة الثنائي لترشيحه لكان في مؤخرة الخاسرين، وباستثناء جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الاحباش) التي أمنت الفوز لثلاثة نواب، منّي جميع المرشحين المحسوبين على دمشق بخسارات مدوية.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن الذين ابتعدوا قليلاً أو بشكل صريح عن دمشق تمكنوا من تحقيق نتائج أفضل وهنا تبرز حالة النائب الصيداوي الدكتور أسامة سعد الذي تمكن هذه المرة وفي غياب منافسة «تيار المستقبل» له في الدائرة من إنجاح لائحته كاملة رغم تخليه الواضح عن تحالفه السابق مع الثنائي الشيعي وخوض المعركة الانتخابية بشعارات مستقلة تقترب من مشاعر المجتمع المدني وأنصار انتفاضة 17 تشرين، وهي المحطة التي تميز فيها سعد عن حلفائه السابقين ورفض تخوين المنتفضين معلناً تضامنه مع مطالبهم.
هناك الكثير مما يقال في هذه الانتخابات التي جاءت بعد ثلاثة أحداث مفصلية؛ انتفاضة 17 تشرين، الانهيار المصرفي والاقتصادي والمعيشي، وانفجار المرفأ الذي دمّر وهشّم نصف مدينة بيروت مخلفاً مئات القتلى والجرحى وعشرات آلاف المهجرين والمتضررين.
حملت الانتخابات التي شكك كثيرون في إمكانية حصولها مفاجآت كثيرة أبرزها عدم حصول أي تحالف على أغلبية بسيطة، ودخول المجتمع المدني والمستقلين إلى الندوة البرلمانية بقوة واضحة تتمثل في 27 نائباً أغلبيتهم من أبناء وبنات «17 تشرين»، وخسارة تيار رئيس الجمهورية للأكثرية الشعبية المسيحية للمرة الأولى منذ مشاركته في الانتخابات قبل 16 سنة، ناهيك عن عدم مشاركة «تيار المستقبل» للمرة الأولى منذ 26 سنة.
في واقع كهذا من السهل تجاهل خسارة حلفاء دمشق المباشرين خصوصاً وأن أكبر كتلة نيابية (الثنائي الشيعي) في البرلمان الجديد متحالفة ميدانياً وعلناً مع دمشق، إلّا أن طبيعة علاقة «حزب الله» و«أمل» مع النظام السوري تختلف شكلاً ومضموناً عما كانت عليه علاقات الخاسرين الذين كانوا امتداداً سياسياً مباشراً لقصر المهاجرين. فهل تكون هذه النتائج فاتحة تحوّل في المزاج اللبناني على أمل أن يستعيد الناخب اللبناني في ظروف أفضل، اللعبة السياسية إلى داخل حدود بلده؟
Leave a Reply