• مريم شهاب
أكتب هذه الكلمات حيث «الثلج نازل بالدني تجريح»، والطرقات ضايعة في رياح باردة وقارسة، والناس في العمل وفي السوق وفي البيت. الكل متضايق ومستاء من موجة الثلج والبرد في منتصف شهر آذار، وكأنها المرة الأولى التي يتعرضون فيها للجو البارد.
الله يرحم أهلنا أيام زمان في القرى. كانوا متلائمين مع الطبيعة، رغم عدم وجود تدفئة مركزية ولا مياه ساخنة، لكن أمثالهم كانت لديهم حكمة رغم بساطتها: وفِّر الفحمات الكبار لبردات آذار.
أما الآن، فالكثير منا، اسمالله علينا، يشعرون بالامتعاض والاكتئاب من حياتهم عند أصغر نقطة أو تحوّل يتعرضون له. هناك خرافة تقول إن قطرتين من الدموع كانتا طافيتين فوق نهر الحياة. قالت إحداهما للأخرى: من أنت؟ فأجابت الدمعة الثانية: أنا دمعة امرأة أحبَّت رجلاً وفقدته. ومن أنت؟ أجابت الدمعة الأولى: أنا دمعة المرأة التي حصلت عليه!
ولكل المحبطين واليائسين من الحياة، تحضرني هذه القصة الجميلة لكاتب إنكليزي نسيت إسمه. تتحدث القصة عن ثلاثة أشخاص يائسين من المستقبل، التقوا على غير موعدٍ فوق جسر لندن الشهير في ليلة حالكة الظلام. وقد جاء كلٌ منهم مهموماً بمشاكله، حزيناً لغده، ووقف فوق الجسر ينتظر خلوَّه من المارة لكي يلقي بنفسه في مياه النهر العميقة، وراح يرقب بحذرٍ شرطي الحراسة لكيلا ينتبه إلى غرضه فيلقي القبض عليه ويفسد خطته.
وفي انتظار خلو الجسر من المارين، أشعل كل واحد منهم سيجارة وراح ينتظر خلو المكان من الناس، لكن الضوء الخافت المنبعث من سيجارة الرجلين الآخرين في المكان أزعج كلاً منهما لإشارته إلى وجود شخصين في المكان ينتظر انصرافهما. طال الإنتظار وتنبه كل منهم فجأة إلى أن الآخرين ربما يكونان قد جاءا إلى الجسر لنفس الغرض فقرَّر كل منهم أن يطلب من رفيقيه الابتعاد لكي يستطيع تنفيذ خطته فيقترب الثلاثة من بعضهم البعض، ويسأل كل منهم الآخر عن سبب وجوده في هذا المكان وفي هذه الليلة الظلماء.
قال الأول إنه شاب خسر عمله بسبب إفلاس الشركة، وطالت فترة بطالته، فتأخر عن دفع إيجار شقته وفواتير الكهرباء والماء وتأمين سيارته، ويئس من تحسن الأحوال فقرر الإنتحار. أما الرجل الثاني فهو مصاب بمرضٍ عضال ويائس من الشفاء والحياة. وأما الثالث فهو رجل كبير متزوج من زوجة شابة تخونه مع شاب مثلها ولا يجرؤ على مواجهتها بالخيانة ولا يقدر على الإنفصال عنها فيقرر الانتحار.
يتعاطف الثلاثة مع بعضهم ويكتشف كل منهم أنه قادر على مناقشة مشاكل رفيقيه بمنطق مختلف عن منطق اليأس الذي ناقش هو نفسه مشاكله به، فيتفقون على تأجيل الانتحار يوماً واحداً يعيدون خلاله تحليل مشاكلهم بروح جديدة، ويتفقون على الالتقاء فوق الجسر في العاشرة من مساء اليوم التالي.
يلتقي الشاب العاطل عن العمل مع الرجل المخدوع في اليوم الثاني في نفس المكان فيصارحه أنه اكتشف أن صاحب البيت الذي يشكو منه ليس بالقسوة التي كان يتصوره عليها، فقد تفهَّم ظروفه ووافق على إمهاله فترة طويلة لدفع الإيجار المتأخر، وصارح الرجل الكبير الشاب أن الغدر هو عار على الغادر وليس على المغدور به، وأن حبَّه المذل لزوجته الخائنة ليس بالقوة التي كان يظنها، ولهذا فهو يستطيع التخلص منها في أقرب فرصة. ويتنبه الاثنان إلى أن رفيقهما الثالث لم يأت إلى موعده ويطول انتظارهما له دون جدوى، فيدركان أنه لا بد قد رجع بعد انصرافهما وألقى بنفسه في النهر.
وهكذا مات من استمسك بظلام الليل ونجا من تطلع إلى نور الصباح!
Leave a Reply