تحول التحقيق في قضية العسكريين الشهداء إلى مادة تجاذب بين قصر بعبدا من جهة وعين التينة وبيت الوسط من جهة اخرى، بعدما اختلفت المقاربات لهذا الملف على وقع المصالح والحسابات المتضاربة، إنما من دون أن يشكل اهتزاز العلاقات الرئاسية في هذا الجانب تهديداً حقيقياً للتسوية الداخلية التي لا تزال تحمي الحكومة والستاتيكو السياسي الناشئ بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
وتفيد المعلومات أن عون منزعج من الطريقة التي تعامل بها بري مع ملف التحقيق، خصوصاً لجهة مبادرته إلى التقليل من شأنه ومنحه الحماية السياسية المسبقة لبعض الأسماء، لاسيما الرئيس تمام سلام وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.
تباين رئاسي
ويبدو أن عون استشعر في موقف بري محاولة لتحجيم دوره وإضعاف تأثيره باعتباره «الأب الروحي» للتحقيق. ووفق أجواء قصر بعبدا، فإن عون مصمم على حماية دوره وصلاحياته حتى أقصى الحدود التي يسمح بها اتفاق الطائف، وبالتالي فهو لن يكون الرئيس الذي يكتفي بمنح الاوسمة للشهداء وإنما سيستفيد من كل الهوامش المعطاة له في «الطائف» ليتصرف كرئيس قوي، صاحب قرار.
بالنسبة إلى بري، لا صحة للاستنتاج القائل بأن موقفه يرمي إلى استهداف علني أو مضمر لعون، بل أن رئيس المجلس يحرص باستمرار على التأكيد بأن علاقته مع رئيس الجمهورية جيدة، ومبنية على مبدأ التعاون، منطلقاً من أن الانتخابات الرئاسية وتداعياتها أصبحت خلف ظهره وأنه يحاول التعايش مع عون بأفضل طريقة ممكنة من أجل تسهيل عمل المؤسسات وتفعيل دينامية الدولة.
ومع ذلك، لا يتردد بري في الدفاع عن سلام وقهوجي، وتبرئتهما من تهمة التقصير أو التخاذل في التعامل مع معركة عرسال ومفاعيلها. من منظار عين التينة، لا يجوز اختزال الخلل الميداني أو السياسي بإسم أو إسمين، ذلك أن المرحلة السابقة كانت بجملها تعاني من انعدام التوازن، ربطاً بالاحتقان السني–الشيعي الذي طبعها وحال دون التعاطي مع ملف عرسال بالحزم المطلوب، خشية من انفجار براميل البارود المذهبي، وعندها كان سيصبح مصير لبنان كله على المحك وليس فقط مصير العسكريين.
ولأن حكومة تمام سلام كانت حكومة الـ24 رئيساً، في ظل الشغور الرئاسي، يعتبر بري أن كل مكوناتها كانت شريكة آنذاك في السراء والضراء، ومن غير الجائز ولا اللائق افتعال البطولات الوهمية الآن بعد انجاز تحرير الجرود وحصر تبعات قضية العسكريين في شخص سلام أو قهوجي.
وفي إطار الرسائل المتبادلة فوق السطوح، أكد الرئيس سعد الحريري أيضاً أن سلام خط أحمر والمزايدات مرفوضة، غامزاً بذلك من قناة عون بالدرجة الأولى.
التقط عون انزعاج الحريري، واستنتج أن رئيس الحكومة يريد ضمانات معينة لضبط مسار التحقيق وخط سيره، بحيث لا يشمل المستوى السياسي على الأقل، إذا كان إقفال هذا الملف متعذراً كما كان يرغب رئيس «المستقبل». لكن رئيس الجمهورية رفض منح ضمانات من هذا النوع، مصرا على ترك التحقيق يأخذ مجراه الطبيعي، من دون تكبيله بقيود ولا توجيهه عن بُعد.
ولعل اللهجة الحادة لرئيس تيار المستقبل تعكس في أحد أبعادها شعوره بأن المصيطبة هي خط الدفاع الأول عن بيت الوسط الذي كان الراعي والحاضن لقرارات سلام وخياراته اثناء توليه رئاسة الحكومة، وصولاً إلى طريقة تعامله مع أحداث عرسال في 2 آب 2014.
اتجاهات التحقيق
إلى أين يمكن أن يصل التحقيق في وقائع احداث 2014؟
نظرياً، تبدو الاحتمالات مفتوحة، أما عملياً فهي محكومة بتوازنات سياسية وطائفية من شأنها أن تحصر المساءلة في «الطابق الأرضي»، من دون أن تصل إلى الطوابق العليا حيث يقيم أصحاب الحصانات. وما يزيد الأمر تعقيداً هو أن أي توسع في التحقيق نحو الكواليس السياسية قد يهدد بتداعي التسوية الحالية التي شارك في انتاجها بعض المتهمين بتعطيل القرار السياسي للجيش عام 2014.
ومع ذلك، هناك من يفترض أن رسو التحقيق عند مديرية المخابرات في الجيش هو مصدر للطمأنينة والثقة، حتى يثبت العكس.
وتركز المخابرات في عملها على إيجاد أجوبة وتفسيرات حول تساؤلات محيرة من نوع: لماذا لم تُتخذ الاحتياطات والإجراءات اللازمة بعد توقيف الارهابي عماد جمعة، ولماذا تُرك العسكريون من دون تعزيز مواقعهم، وما سبب عدم الاستماع إلى قائد اللواء الثامن بعد انتهاء المعركة، وكيف سُمح للخاطفين بنقل العسكريين المخطوفين إلى الجرود؟
وانطلاقاً من هذه التساؤلات، سيتم التدقيق في العناصر الجرمية الكامنة خلف خطف العسكريين وقتلهم، وذلك وفق ما ينص عليه قانون العقوبات.
وزير العدل: لا كيديات
وتشمل العناصر الجرمية جوانب الإهمال، التقصير، التواطؤ، التدخل، والتسهيل، تبعاً لما أكده وزير العدل سليم جريصاتي لـ«صدى الوطن»، موضحاً أنه لا توجد بتاتاً نية لاستخدام هذا الملف من أجل الكيديات أو تصفية حسابات مع أحد.
ويشدد جريصاتي على أن التحقيق الشفاف والنزيه يشكل ضمانة للجميع وحصانة لمنطق الدولة، مشيراً إلى أن البديل عنه هو أن تتولى العشائر والعائلات الانتقام كما حذر الرئيس عون، ومتسائلاً: هل المطلوب أن نستبدل العدالة القضائية بمفهوم الثأر؟
وزير الخارجية: تزوير للحقائق
وفي سياق متصل، يبدي رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل أسفه لكون البعض لا يريد تظهير صورة الانتصار الذي تحقق على الإرهاب، والأدهى أن من كان مسؤولاً عن انتهاك السيادة على الحدود الشرقية وتمدد «داعش» و«النصرة» عام 2014 «بات اليوم هو من يعطينا الدروس ويوجه إلينا الاتهامات».
وقال باسيل لـ«صدى الوطن»: لقد قبلنا نحن أن نسكت ونطوي الملف بينما هم يرفضون السكوت ويصرون على تزوير الحقائق، وما دام الأمر كذلك، فإننا لا نقبل أن يُساوى بين من كان يدعو على طاولة مجلس الوزراء إلى الحسم ضد الإرهابيين ومن كان يعترض علينا باستهزاء، «تارة بحجة الخشية من فتنة سنية–شيعية وطوراً بحجة أن كلفة المعركة ستكون باهظة على العسكريين والمدنيين»، و«لذلك لا يجوز الخلط بين من أضاع السيادة ومن استعادها».
ويشدد باسيل على أن المسؤولية السياسية عما جرى في عرسال سنة 2014 واضحة وهوية من يتحمل هذه المسؤولية واضحة.
ويقر باسيل بأن هناك فتوراً مع الرئيس الحريري في شأن هذا الملف، قائلاً: صحيح أننا ورئيس الحكومة على قناعة بضرورة أن نمضي إلى الامام، إلا أن هذا لا يعني ألا ننظر أيضاً إلى الوراء لنراجع ما حصل».
ويبدي باسيل مرارته لكون بعض اللبنانيين هم من «ناكري الجميل» الذين لا يقدرون الدور الذي أداه «حزب الله» في مواجهة الإرهابيين عندما كان الجيش مكبلاً.
Leave a Reply