بين «عقيد باب الحارة» وعقيد باب العزيزية..لو لم يكن لدى الحكام العرب «قذافي» لوجب عليهم ان يعثروا عليه! فالزعيم الليبي هو الاوحد الذي اعطى القمم العربية في العقود الثلاثة الاخيرة «نكهتها» بمواقفه «الدونكيشوتية» غالباً و«الحكيمة» نادراً، خصوصاً بعد ان شاهد فيلم إعدام صدام حسين وصلى لربه بأنه اخذ «القرار الصائب» في دعوة المجتمع الدولي وعلى رأسه الاميركيون للاحتفال بنبذه لكل برامج التسلح النووي والكيميائي، بعد 11 ايلول 2001.يمكن الزعم انه لولا خطاب الزعيم الليبي في قمة دمشق لما تسنى للمشاهدين العرب من المحيط الى الخليج الاستمتاع بتلك الضحكات والقهقهات التي اطلقها الزعماء الذين يبخلون ببسمة على شعوبهم على مدار السنة.لا يتوقف الامر عند شطحات العقيد الليبي الخارج من ثوريته المنفلتة الى «عقلانية» مذهلة في تصوير واقع الزعماء العرب، وهو يدعوهم الى استنباط العبر من درس النظام العراقي وديكتاتوره المعدوم، ونصيحته الثمينة لهم بأن «احبوا بعضكم بعضاً. قبل ان يلتف حبل المشنقة على رقابكم، الواحد تلو الآخر»، بل ان الزعيم الليبي الاخضر الذي لم يشأ ان يشغل القيادة السورية المتوترة، قبل القمة، بنصب خيمة عملاقة لاقامته في ساحة الامويين، دعا، فيما دعا الى الالتفات «لحقيقة» غفل عنها العرب دهراً وهي «ان ثمانين بالمئة من عرب الخليج هم ايرانيون» فلا ضير بالتالي، ان يقف العرب مع ايران في مواجهة اميركا التي تخلى العقيد عن مواجهتها دون استشارة العرب ولا قممهم. هكذا تخلى القذافي عن إلقاء محاضرات في القومية العربية، اشتهر بها منذ «ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة» واجتهد مراراً لتحقيق الوحدة فأخفق في كل مرة حتى باتت دعواته الطيبة الذكر للوحدة العربية احدى نكات الشارع العربي في حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.جاء العقيد الليبي الى عاصمة الامويين من خلفية «فاطمية» هذه المرة، وهو الذي خرج قبل اشهر بدعوة نادرة في تاريخ المنطقة الحديث لاعادة احياء «الدولة الفاطمية العادلة» التي يشعر فيها «الشيعة المنبوذون والمهددون من العالم السني» بالأمان والاستقرار.
هكذا تتسلى الجماهير العربية!
ويروى، والعهدة على الرواة، ان قائد الجماهيرية الليبية الاشتراكية (لم تعد عظمى على الارجح!) لم يكن ليحضر قمة دمشق لولا تعهد القيادتين السورية والايرانية باسكات الاصوات الشيعية التي ما انفكت تطالبه بفك لغز اختفاء قائد حركة المحرومين الشيعية اللبنانية الامام موسى الصدر، وهي جريمة لا تزال تطوق عنق الزعيم الليبي منذ نحو ثلاثة عقود، وباتت تؤرق مضجعه مع الصعود الشيعي في لبنان الذي استلهم مبادئ القائد «المختفي» على الاراضي الليبية مع رفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحفي عباس بدرا الدين، خلال زيارة الى الجماهيرية وبدعوة من قائدها للاحتفال بالذكرى التاسعة لثورة الفاتح.وليس سراً ان العقيد الليبي قد عرض بالفعل صيغة «لوكربي شيعية» على عائلة الامام الصدر تتضمن تعويضات «خيالية» لطي ملف الاختفاء بأموال البترودولار الليبية التي تحولت الى اداة لغسل الذنوب الليبية في «العهد الثوري» ولتبييض السجل الاسود للعقيد الذي اعترف بصرف اكثر من مليار دولار على «حلفاء لبنانيين» خلال الحرب الاهلية اللبنانية القذرة «دون طائل». وليس سراً ايضاً ان دعوة الزعيم الليبي لاعادة احياء «الدولة الفاطمية» في المشرق والمغرب العربيين لها منطلقات الاحساس بالذنب الشخصي وليس الجماعي تجاه «شيعة آل البيت» الذين صار القذافي ينمي نفسه إليهم في الآونة الاخيرة، و«إضطهادهم التاريخي على ايدي السنة العرب».والعقيد القذافي القادم الى اول قمة عربية في عاصمة دولة الامويين التاريخية مغازلاً الايرانيين وداعياً الى فتح اعين العرب على «تقاطع مصالحهم» معهم، هو ذاته العقيد الليبي الذي وقف وزير خارجيته عبدالرحمن شلقم في مؤتمر لوزراء الخارجية العرب في القاهرة قبل اسابيع داعياً الى تنحية «المهزلة اللبنانية» جانباً والالتفات الى «خطر التشيع» الذي تقوده ايران في العالم العربي، وفي سوريا على وجه الخصوص، والى مطالبة ايران بإعادة الجزر الاماراتية الثلاث. في القاهرة يحاول القذافي ارتداء العباءة السعودية، وفي دمشق ينتعل القبقاب الشامي لاحداث جلبة وجذب الانتباه الى قضيته الشخصية التي تنتقل من مأزق الى مأزق: وهو «المطلوب للعدالة اللبنانية» لصقاً على باب قصر العدل البيروتي مؤخراً.
رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة ربما فاته ان يسوق «عذراً شرعياً» لعدم ذهابه الى قمة دمشق: ثمة مشكلة تقنية – بروتوكولية كانت تمنعه من اللقاء بأبرز المتهمين في إخفاء قائد طائفة هي اكبر الطوائف اللبنانية، ومن مصافحته، وهو المطلوب من القضاء اللبناني للادلاء بـ«شهادته» في قضية الاختفاء الاشهر في القرن الماضي.بإمكان القذافي ان يدعو الى قيام دولة فاطمية وان يجري تعديلات جوهرية على ملايين النسخ من كتابه الاخضر ليتلاءم مع دعوته الجديدة، وبإمكانه ان يلقي العظات الركيكة عن لم الشمل العربي على مستوى القادة والزعماء لتجنب مصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. فهذا الزعيم العربي المتربع علي سلطة عائمة على بحيرات من النفط منذ نحو 40 سنة قد «امّن» على حياته السياسية والشخصية لدى «الامبريالية الاميركية والغربية» بصفقة العصر التي عقدها مع ضحايا لوكربي، جاء الى قمة دمشق متأبطاً هذا النموذج في كواليس القمة واتصالاتها البينية، لاقناع بقايا «الممانعين» العرب والعجم بمحاسن الصفقات وآثارها الايجابية على صحة الانظمة السياسية المأزومة في منطقة تغلي باستحقاقات وتتأهب لتطورات سوف لن يكون للعقيد الليبي اي دور او تأثير في مسارها على الاغلب، اللهم الا التذكير بنصائحه لهم من مصير «زميلهم» السابق صدام حسين!لو اجري الآن استفتاء في الشارع العربي عن ابرز ما حققته القمة العربية من «انجازات» لخرج العقيد الليبي «بطلاً» لها، بلا منازع.الا ينزع الشارع العربي الى توخي التسلية لمسايرة ذلك الغمّ المطبق على القلوب في واقع عربي وصل الى قمة الاهتراء؟ولعل من حسن طالع القمة العربية الاخيرة، ان «عرضها» لم يتزامن مع جزء جديد من مسلسل «باب الحارة» اذاً، لما سمع بها «مواطن» في الشارع العربي الباحث مثل يوجين في عتمة ليله عن «عقيد شهم» يملأ عليه خواءه.لكن شتان ما بين «عقيد باب الحارة» وعقيد «باب العزيزية» في اذهان الجماهير العربية التي لم يعد يجذبها مسلسل القمم العربية بقدر ما تنجذب الى مسلسلات من نوع «باب الحارة» الذي طارت شهرته الى اعالي السحاب العربي، وحيث نجحت الدراما السورية الاجتماعية اكثر بما لا يقاس من الدراما السياسية السورية في قمة دمشق التي حاصرتها الانشقاقات والخلافات من كل حدب وصوب..
Leave a Reply